"يا باغي الخير أقبل".. نداء رمضاني ممتلئ بأسباب التلبية
ل شهر رمضان خصوصية الأجر، في عظمته ورفعته حين يقوم المسلم بأداء زكاته وصدقاته خلاله، ففي الحديث الشريف تبيان لهذا الأمر، بقوله (صلى الله عليه وسلم): "من تقرب فيه بصدقة كمن تقرب فيما سواه بفريضة".
وقد جعل الله –سبحانه وتعالى- من أيام شهر رمضان بركة للعابدين، وللمحسنين، تكون بمثابة الفرصة لإصلاح النفوس وتطهير القلوب، يجتهد فيها المسلم في فعل الخيرات، والاستزادة من الطاعات، قدر ما أمكن، لبلوغ الغايات الأسمى المتمثلة في التقرب إلى الله وكسب رضاه.
كما رفع الله -تبارك وتعالى- منزلة فاعلي الخير، والعاملين في سبيل ذلك، حيث الثواب الأعظم حين تكون نتائج أعمال الخير جلاء للكرب، وتفريج للهم، وقضاء حاجة محتاج، سيما وأن الله سبحانه قد جعل قضاء حوائج الفقراء والمساكين والأيتام والمحتاجين، على أيدي المحسنين والعاملين في المجال الخيري، ليكونو بذلك سبل خير لعباده الضعفاء والمكروبين.
ويتعزز في الشهر الفضيل الدور المناط بالعاملين في القطاع الخيري والإنساني، حيث تقع على كاهلهم مهمة قضاء حوائج الناس، كما أسلفنا، ما ضاعف من مسؤولياتهم الدينية والأخلاقية تجاه مستحقي الدعم والمساعدة، الذين ينتظرون الكثير من الطرفين الأولين للمعادلة الخيرية، التي تتكون من المحسن (المتبرع)، والعامل في المجال الخيري، والمستحق للمساعدة، حيث أمل المحتاجين بأهل الخير -بعد الله-، كبير وعميق، قد لا يدرك مقداره أحد.
وفي زمن باتت تضيق فيه سبل العيش، مع انتشار الأوبئة، وازدياد الكوارث الطبيعية، واندلاع الحروب التي تخلف القتل والدمار، بين حين وآخر، وما لذلك من انعكاسات على البشرية في مختلف أنحاء الأرض، التي تتضاعف معاناتها وبؤسها أكثر فأكثر، تزداد المسؤوليات على أهل الخير، حيث يتطلب الأمر مضاعفة مجهوداتهم للوفاء بالتزامهم الاخلاقي والديني تجاه الفقراء والمحتاجين، والمستغيثين، ومستحقي المساعدة.
وفي السياقات ذاتها يتطلب ذلك مضاعفة عطاء المحسنين، من أجل محاصرة رقعة البؤس المضطردة في الاتساع، وكفكفة دموع الأطفال والأيتام الجوعى الذين تزداد أعدادهم مع كل نائبة وكارثة تحل، وإيواء من تشرد عن دياره، ومساعدة أسر فقدت معيلها، والمساهمة في علاج مريض لا يمتلك ثمن العلاج.
فقد اكتملت دائرة البؤس لدى شعوب تعيش منذ سنوات محنة الحروب وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، مع مفاقمة جائحة كورونا لمعاناتها، على مدى السنوات الماضية، ليأتي الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية مطبقاً بمزيد من البؤس على أعناق الفقراء، ومتسبباً باختناقهم مع مصائب تأتي إليهم تباعاً.
وبات ملايين البشر في بلداننا العربية والإسلامية يئنون تحت وطأة ضغوط الحياة الثقيلة، بل وصل الأمر بهم حد خطر المجاعات كما يحدث اليوم في اليمن، وبيع أرباب الأسر أعضاءهم من أجل إطعام أسرهم في أفغانستان ومناطق أخرى، كما أن الأشقاء السوريين ما يزالون يعيشون ضراوة التشرد واللجوء داخل وخارج سوريا، وتستمر قصص المعاناة في الكثير من البلدان كليبيا والمغرب ومصر وتونس ولبنان..وغيرها من المناطق، حيث تصيب هذه القصص كل إنسان سوي، وصاحب ضمير حي بالصدمة، وتثير في داخله أسئلة خلاص أشقائه في الإنسانية من حالة البؤس، وكيف له أن يكون سبباً في التخفيف من معاناتهم.
وفي الحالة الفلسطينية معاناة إنسانية مركّبة تجمع بين استمرار الاحتلال في ارتكاب انتهاكاته بحق الفلسطينيين، وما يخلفه من مآس في مختلف بقاع الأرض الفلسطينية، وبين قساوة الحياة والظروف المعيشية التي تتأثر بها باقي شعوب المنطقة، لتحيل حياة الفلسطيني إلى جحيم، وشعور دائم يلازمه بعدم الاستقرار النفسي والمعاشي.
فالحصار الإسرائيلي ما يزال مطبقاً على أهالي قطاع غزة ، بما يخلفه من تداعيات ومآسٍ إنسانية لا حصر لها، لم تعد خافية على أحد، وفي مدينة القدس مخطط صهيوني تهويدي مستمر يقتلع المقدسيين من منازلهم، وينغص عليهم حياتهم، أما في الضفة الغربية فمصادرة الأرض وتكثيف الحواجز الإسرائيلية لتقييد حركة التنقل وعزل المدن الفلسطينية بالجدار العازل، والتضييق على السكان الفلسطينيين بهدف طردهم، وتشجيعهم على الهجرة خارج فلسطين، ما يزال سلوكاً اسرائيلياً يومياً يمعن في إحباط أبناء الضفة، وإيصالهم لحالة اليأس المزمن.
وللاجئين في مخيمات الشتات معاناتهم المعيشية المستفحلة، فالأزمة الاقتصادية في لبنان زادت من تهميش اللاجئين الفلسطينيين، وأوصلتهم إلى شفير المجاعة، وفي سوريا ما يزال الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين يعيشون حياة التشرد دون أفق لحل يضمن نوعاً من الاستقرار لحياتهم، كما يعيش اللاجئون الفلسطينيون في العراق والأردن وتركيا ومصر أشكالاً من المعاناة والتهميش تزيدها المستجدات السياسية والاقتصادية تدهوراً، من أبرزها تقليص وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (أونروا) من موازناتها المخصصة لتقديم الدعم الصحي والتعليمي والإغاثي للاجئين، ما يوسع من دائرة الحرمان من هذه المساعدات، ويفرض تهديداً مصيرياً لحياة ملايين اللاجئين.
واقع حال أبناء الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت نير الاحتلال، ويعيش يومياً صنوفاً من المعاناة، يجعلنا نطلق نداءنا مرة أخرى (إجعل رمضانك لفلسطين)، أي أن يتم إيلاء الوضع الإنساني الفلسطيني أهميةً أكبر لدى المحسنين، وأهل الخير، من جانب، والاهتمام بتوجيه الدعم من قبل صانعي الخير في المؤسسات الإنسانية والخيرية من جانب آخر، خاصةً وأن دعم الأرض المقدسة وأبناءها يعد واجباً دينياً وأخلاقياً وإنسانياً على حد سواء، ويمكن الاستدلال على ذلك بدعوة رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، "إهداء الزيت لإسراجه في قناديل بيت المقدس"، وهو ما يشكل رمزية الدعم بشكل عام لأرض بيت المقدس.
وفي خلاصة القول، فإن لشهر رمضان الفضيل نداءه الروحي بالإقبال على العطاء، وعدم إضاعة فرصة الثواب والجزاء المضاعف للمسلم، فهذا الشهر هو الفرصة والجائزة التي لا بد أن يحرص كل واحد فينا على اغتنامها، وتظهر حلاوتها وجماليتها وأثرها الإيجابي في قلوب نهِبها السعادة، وسيبقى نداء (يا باغي الخير أقبل) نداءً رمضانياً ممتلئاً بأسباب التلبية، ومفتوحاً لمن يبغي الفضل العظيم من الخالق تبارك وتعالى.. فهل من ملبٍّ للنداء.