على افتراض أن الحرب في أوكرانيا قد انتهت عملياً، وهو افتراض واقعي ومنطقي، لأن الحديث الآن يدور حول حقيقة قبول وتقبُّل الطرف الأوكراني للشروط الروسية إلى درجة البحث عن «الدول الضّامنة» للاتفاق الذي سيتم ترسيمه لاحقاً، وعلى افتراض أن الغرب سيحاول «إعاقة» الوصول إلى اتفاق كهذا، وهو افتراض واقعي ومنطقي ـ حتى الآن ـ وعلى افتراض أن الحرب التي يشنها الغرب، الاقتصادية والإعلامية والعسكرية غير المباشرة، والأمنية المباشرة ستفقد زخمها، إمّا بالكامل، أو شبه الكامل، فإن إعادة تنظيم العلاقات الدولية في إطار نظام عالمي جديد تصبح حتمية بصرف النظر عن مرحلة المراوحة والمراوغة والمكابرة والمناورة، خصوصاً بعد قرار روسيا بالدفع بعملة الروبل.
السؤال الذي يهمّنا أكثر من غيره هنا هو:
كيف ستكون عليه خارطة الإقليم في إطار الخارطة الأشمل؟
وهل يُمكن، ومنذ الآن استقراء ملامح النظام الإقليمي، ومن ضمنه النظام العربي؟، وهل هناك ما يكفي من الوقائع والمعطيات التي يُعتدّ بها، أو يمكن أن تحمل ملامح وعناصر «ارتكازية» ثابتة أو مستقرة نسبياً في تضاريس هذه الخارطة؟
دعونا نحاول، ودعونا نبدأ من مقدمات هذا الواقع التي تجري بسرعة وتسارع على الأرض.
أولاً: إيران؛ الاتفاق حول برنامجها النووي أصبح جاهزاً، والاتفاق حول «الحرس الثوري»، وحول العقوبات، وحول الحل الوسط فيهما أصبح جاهزاً، أيضاً، على ما يبدو.
هذا يعني أن الحرب في اليمن ستضع أوزارها لأن إيران لم تعد معنية باستمرارها، والحل السياسي حول سورية أصبح يقترب أكثر من أيّ وقتٍ مضى، والاستعصاءات في لبنان ستجد طريقها إلى «الحلحلة»، وحتى الحلول في العراق ستبدأ «بالدوران» بعد إعادة ترتيب البيت أو البيوت الشيعية هناك.
قبل كل هذه «الانفراجات» سنشهد بكلّ تأكيد موجات من الصراع السياسي المحتدم تهدف إلى تحسين المواقع، وليس إلى تغيير المعادلات بالكامل.
ثانياً: تركيا؛ بعد الاستدارة التركية التي وصلت إلى حدود نصف الدائرة، وبعد أن أعادت تركيا اصطفافها إلى جانب الغرب، وبدأت «مشوار» مصالحات وتصالحات مع إسرائيل، ومع دول الخليج، وبما في ذلك التضحية بـ»الإخوان المسلمين»، حتى بـ «إخوان» مصر وليبيا ولاحقاً بـ»إخوان» فلسطين، فإن الحرب في ليبيا باتت تقترب من نهايتها، وأصبحت قطر هي الدولة المعتمدة من الولايات المتحدة لإعادة ترويض من تبقّى من «الإخوان» لمراحل لاحقة، خصوصاً وأن الرئيس التونسي تلقّى هدية من السماء بعد «الجلسة الافتراضية» للبرلمان التونسي لإخراج «الإخوان» من المشهد السياسي المباشر على طريق إخراجهم من دائرة الشرعية السياسية.
وبعد هزيمة «الإخوان» في المغرب، وفي السودان، فإن الواقع السياسي في كل هذه البلدان سيتحوّل إلى صراعات سياسية قاعدتها الرئيسة هي القضايا الاجتماعية والاقتصادية بعد «حلّ» الإشكالية الديمقراطية في كل بلدٍ من هذه البلدان.
أي أن تركيا ستخرج من دائرة «السطوة» السياسية على بعض دول الإقليم لكي «تعيد» بناء أوضاعها أو «تكيّفها» وفق التطورات العالمية والإقليمية الجديدة، وعنوان سياستها سيكون «الانكفاء» الإقليمي.
ثالثاً: إسرائيل؛ الدور الإقليمي لإسرائيل شهد تحولاً كبيراً من دائرة الدولة «المقبولة» إلى دائرة الدولة تحلّ تدريجياً محل الولايات المتحدة، والغرب عموماً في «تأمين» الحماية الأمنية لمعظم دول الخليج وتوابعها.
وإسرائيل بهذا المعنى «أمّنت» لنفسها تجاوز القضية الفلسطينية حتى ولو تبيّن لاحقاً أن دورها بالمظلّة الأمنية الإقليمية ليس جدياً من زاوية خداع الإقليم بهذا الدور المزعوم، ومن زاوية الوهم الذي تأسس عليه هذا الدور.
صحيح أن «التوافق» التركي الإسرائيلي الجديد يعتبر سبباً إضافياً لشعور إسرائيل بالمزيد من «الثقة» بإمكانية تجاوز القضية الفلسطينية، بل والعمل على تصفيتها بكل السبل والإمكانيات، إلّا أن «صراعها» مع الفلسطينيين هو الذي سيهدم دورها الأمني في منطقة الإقليم، لأن هذا الدور هو دور هشّ قابل للانهيار في أي لحظة.
رابعاً: العرب؛ لا مكان للعرب في خارطة الإقليم، من دون الخروج من الدائرة الإسرائيلية، ومن دون إجراء مصالحة «تاريخية» مع إيران، ومن المراهنة على الولايات المتحدة، ولا دور للمؤسسات العربية مثل الجامعة العربية، إذ إنها فقدت كل شرعية أو مشروعية، ولا دور للعلاقات العربية العربية طالما أنها تمرّ عَبر البوابة الأميركية أو الإسرائيلية أو حتى الإيرانية، وكل ما ينتظر «العرب» هو المزيد من «التمحورات» الثانوية الصغيرة المؤقتة، لأن التمحورات الأكبر في الإقليم هي تلك التي تتعلق بالسيطرة على العرب، والعرب حتى الآن يعتبرون التمحورات الصغيرة هي عالمهم وهمومهم وأقصى طموحهم وأولوياتهم المطلقة.
في هذا الإطار يمكن أن نرى تأثيراً أكبر لمصر على كل من السودان وليبيا ويمكن أن نرى العراق وهو «ينأى بنفسه»، أو نجد الجزائر أو المغرب خارج إطار التأثير على المسألة المغاربية بسبب الصراع على الصحراء المغربية، أو نجد تونس خارج إطار أي اصطفاف، أو نرى «الخليج» وقد رفض السياسة القطرية من جديد أو حجّمها، ونرى عُمان وكأنها خارج الخيارات الخليجية والكويت تنزع نحو استقلال قرارها أكثر فأكثر.
كل هذا ممكن ووارد لكنه خارج الدور الإقليمي للعرب، بل هو في الواقع الدليل الإضافي أن لا دور إقليمياً للعرب، وأن الحالة العربية قد فقدت كل مقومات وصفها بالحالة، لأنها لم تعد تمتلك أو تستحق هذا الوصف من حيث الأساس.
لو فكّرنا مليّاً في هذا المشهد فإن فلسطين هي الضحية الأولى لواقع الإقليم ولواقع العرب فيه.
ولو فكّرنا مليّاً، أيضاً، فإن هذه «الضحيّة» هي التي تمتلك المفتاح السحري، إما لتردي الوضع العربي في إطار الإقليم إن هي واصلت التعامل مع هذا الواقع من موقع «الحيط الحيط، ويا ربّ الستيرة»، وبالتالي إبقاء الحال على حاله، أو يتحول العامل الفلسطيني إلى فعل كفاحي سيطيح حتماً بـ «التحالف العربي مع إسرائيل»، أو يحول هذا التحالف إلى عبء على الأنظمة السائرة في ركابه، بل ويمكن أن يؤدي، أيضاً، إلى اصطفافات عربية ودولية جديدة لصالح القضية الفلسطينية.
وفي مطلق الأحوال فإن العامل الفلسطيني إذا ما انخرط في عملية كفاحية موحّدة ضد إسرائيل أن يفرض حالة يصبح بموجبها الانتصار للقضية الفلسطينية مشروطاً بالضغط على إسرائيل، أو دفع ثمن الانسياق خلفها. وهنا تكون إسرائيل في ظل هذا كله قد خسرت رهانها على «الحماية الأمنية»، أو خسرت القدرة على توظيفها لتجاوز حقوق الشعب الفلسطيني، ناهيكم عن مخطط تصفية هذه الحقوق.
مرةً أخرى تعود الحلقة العربية لتكون، هي الخاصرة الرخوة لفلسطين، أو الداعم الأهمّ، لأن العامل الدولي سيعود ليزكّي أولوية الحل السياسي القائم على الشرعية الدولية في ظل نظام عالمي جديد ستتحول فيه هذه الشرعية إلى معيار معتمد بدلاً من معيار الولايات المتحدة لهذه الشرعية، والتي تعتبر إسرائيل صاحبة «حق» في تجاوز هذه الشرعية والتمرد على كل قراراتها.
وتمتلك فلسطين فرصة تاريخية جديدة «للتحرر» من تجاذبات الإقليم وكل استقطاباته، العربية والتركية والإيرانية إن هي عرفت كيف ومتى وأين تقف، وكيف تقف حيث تكمن المصالح الوطنية الكبيرة والأساسية للشعب الفلسطيني، وإنّ غداً لناظره قريب.
هذه الحرب التي تضع أوزارها في أوكرانيا ست فتح أمام الشعب الفلسطيني أُفقاً جديداً إن عرفت فلسطين كيف تشق طريقها نحو هذا الأفق.
لولا الحرب في أوكرانيا لتحوّل الدور الفلسطيني إلى المزيد من الركود السياسي، ولبقي العرب في دائرة التحالف مع إسرائيل، ولبقي «باقي» العرب تحت طائلة العقاب لكل من تسوّل له نفسه الخروج عن الإجماع الأميركي الصهيوني، ولبقي الكفاح الوطني الفلسطيني من دون ظهير دولي، ومن دون ظهير عربي حقيقي، ولبقي التضامن العربي والدولي مشروطاً بتحوّلات ما زالت بعيدة بالرغم من دورها الكبير.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد