لم تكن نتائج الانتخابات البلدية مفاجئة إلا في تأكيدها على حضور حركة فتح في الشارع، الحضور الذي لم ينقطع يوماً. وربما جاءت تلك النتائج لتقطع الجدل الذي اتخذ من وسواس الشك سماً له، أن القيادة الفلسطينية ألغت الانتخابات التشريعية هرباً من هزيمة "فتح"، الهزيمة التي فقط تحدث في عقول المشككين، وليس بسبب منع الاحتلال لعقد الانتخابات في القدس . وبسهولة يمكن إخفاء المشاعر الوطنية مقابل الانتصار للمشاعر الحزبية التي تدفع هؤلاء للشك بأن "فتح" تهرب منهم ومن أصوات الناس لا تدافع بقوة عن حقوق مبدئية لا نقاش فيها بالنسبة لها. ما حدث أن شعبية "فتح" في كل مرة تثبت أنها أقوى وأكثر تماسكاً وان ما هو عكس ذلك فقط يدور في أروقة الترف والنقاش الفائض عن الحاجة.
لم تخسر "فتح" ولم تذهب إلى الدرك الأسفل ولم تنتقص شعبيتها، بل إن النتائج أشارت بقوة إلى حضور متزايد للحركة وتقدم في الكثير من المواقع. ويمكن لدراسة تحليلية للنتائج أن تتحدث عن تقدم لا بد أن تفخر به "فتح" ولا بد أن يكون دافعاً لها لو أرادت التنازل عن "القدس" كما يريد البعض لها أن تفعل أن تجري الانتخابات التشريعية مستندة إلى هذه الثقة العالية التي منحها إياها المواطن. لقد أثبتت "فتح" كما في كل مرة أنها حين تشعر بالخطر تستطيع أن تجدد نفسها وتكشف عن حقيقة قوتها.
من المحزن أن يكون الهدف الكلي والوطني والقومي والكوني والشمولي لبعض الفصائل أن تسقط "فتح" وأن تخسر الانتخابات، فيما همّ القيادة الأساس هو أن تنجح الانتخابات وان تحافظ على دوريتها وعلى حق المواطن في ممارسة حقوقه المكفولة في القانون. تلك الحقوق التي تسقط في حالة واحدة: إذا تعارضت مع الحقوق السياسية للشعب ومع تطلعاته الوطنية. فحين يكون إجراء الانتخابات ثمناً لإغماض العين عن القدس وللتسليم بأن ليس من حقنا إجراؤها هناك فإن لا حق آخر يسمو وقتها على هذا الحق: حقنا كفلسطينيين في عاصمة الآباء والأجداد والأحفاد.
القصة ليست قصة صندوق اقتراع، إنه الصندوق الذي يعني ميراثاً بعمر الزمن وحلماً أقرب من رمشة العين. إنه الصندوق أو الصناديق الستة التي تعني أن الحقوق لا تتجزأ. من العجيب أن يكون همّ أطراف قوس قزح السياسة الفلسطينية أن تسقط "فتح". من المريب أن يلتقي أقصى اليمين مع أقصى اليسار في قائمة أو في تحالف علني أو ضمني من أجل أن تخسر "فتح" الانتخابات. أن يتم التنازل عن الأجندة الاجتماعية لليسار لصالح أجندة اليمين من أجل أن تخسر "فتح"، أو أن يتم وضع كل الاعتبارات الوطنية والحزبية جانبا من أجل أن تخسر "فتح". بصراحة، الحالة الفلسطينية بحاجة لمراجعة عميقة. في المحصلة لم تخسر "فتح" منذ حملت البندقية وقالت للاجئ الفلسطيني: إذا أردت فلسطين فاتبعني. لم تقل له: عليك أن تكون متديناً أو أن تدعي التدين، ولم تطلب منه أن يقرأ ماركس وانجلز أو يؤمن بالاشتراكية، كما لم تشترط عليه أن يكون قومياً أو أممياً أو أي شيء، فقط قالت له: إن أردت فلسطين فاتبعني. منذ تلك اللحظة لم تخسر "فتح". حتى حين سجلت "فتح" أول سابقة في تاريخ المنطقة العربية وقبلت أن تهزم في الانتخابات التشريعية في العام 2006 سلمت الحكومة للتنظيم المنافس وفعلت ذلك إيماناً منها أنها الرابحة في المحصلة لأن الحياة الديمقراطية جزء من بحث الشعوب عن الحرية. ومع ذلك وبعد الانتخابات بأسابيع، خرج الناس مصدومين للشارع غير مصدقين أنهم خذلوا "فتح".
هذا ليس حديثا عن "فتح"، ولكن عن الفهم الحقيقي للديمقراطية. ففي كل النتائج التي لم تحصل فيها "فتح" على أغلبية مطلقة في مجالس الهيئات فإن الجميع تكتل من أجل أن يمنعها من ذلك وإذا ما أعطي كل حزب حصته في نتائج التكتل فإن "فتح" تكون ربحت جميع المواقع. أيضاً من المفيد التذكير بهذا عند قراءة النتائج لأن القراءة الصحيحة تقود إلى استنتاجات صحيحة حول المستقبل. إنها الاستنتاجات التي يجب على خصوم "فتح" أن يعوها جيداً وهم ينتظرون إلى الغد إذ أرادوا فعلاً أن يكونوا شركاء في بناء هذا الغد على قاعدة البحث عن الخير العام لا الانغلاق في العالم الحزبي الضيق.
إذاً، الأمر لا علاقة له بالربح وبالخسارة، وتأجيل الانتخابات التشريعية لم يكن له علاقة بأي حسابات أخرى غير حسابات الوطن. وإذا كان الأمر كذلك فإن هزيمة خصوم "فتح" رغم تحالفاتهم وتعاضدهم وتكاتفهم من أجل القليل من الانتصار عليها، يجب أن يقود إلى الخطوة الصحيحة التالية المتمثلة في البحث عن مخرج من الركود في الحالة الوطنية ووضع قطار الحوار الوطني في السكة الصحيحة. إن البحث عن مخرج يجب أن يكون الهدف التالي بعيداً عن المزايدات الحزبية. إن المراهنة على تراجع شعبية "فتح" هو رهان على سراب، فالأمر لا علاقة له برغبات البعض أو أحلامهم أو أحقادهم، بل له علاقة بالمواطن وماذا يعتقد. وفي كل مرة ثمة ما يشير إلى أن الشمس لا يمكن أن تشرق مع الغرب.
لا بد أن تكون نتائج الانتخابات دعوة حقيقية للجلوس والبحث عن طريقة لإدارة الشأن الوطني بطريقة مشتركة على قاعدة استكمال الانتخابات البلدية في قطاع غزة حتى يمارس المواطن  حقه وعلى قاعدة البحث عن بداية في حال تعذر إجراء انتخابات تشريعية شاملة، بدائل تكفل مشاركة الجميع في إدارة الشأن العام. هكذا يمكن أن نتقدم ولو خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح ويمكن لنا أن نرى القليل من النور في نهاية النفق.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد