لم يعد أحد يُصدّق أن أزمة أوكرانيا هي مجرد أزمة إقليمية حول أطماع روسية وطموحات أوكرانية.بات واضحاً، الآن، أن هذه الأزمة هي لحظة حاسمة في مسار انبثاق نظام عالمي جديد، وهي تكثيف (مرعب ومخيف) للصراع بين الأقطاب الدولية «قديمها وجديدها»، في لحظة انتقالية فاصلة، وشديدة التعقيد والحساسية، وذلك لأنها تتضمن لعبة حافة الهاوية وليس مجرد مصارعة الثيران.
الزعيم السوفييتي الأسبق أندروبوف، والذي كان معروفاً بتشدده حيال الغرب، والذي كانت فترة حكمه قصيرة جداً، علّق على أحد «تفوّهات» أحد البلدان الأوروبية الذي حاول أن يعطي لنفسه مكانة لا يشغلها في الواقع قائلاً: عندما تنزل الدببة الكبيرة إلى الحلبة فعلى الدببة الصغيرة أن تُخلي المكان على الفور، فيما يشبه المثل المتحدر من التراث الروسي.
الصراع على الحلبة الدولية اليوم هو صراع الكبار على المعالم الرئيسة للنظام الدولي الجديد، ومن هنا خطورته وشدته وحساسيته.
فلا الغرب يرى نفسه خارج نطاق (الآمر الناهي)، ولا الشرق الذي لم يعد شرقاً تماماً، وليس هو غربياً وربما لا يرغب أصلاً في أن يكون، ولكنه يُصرّ على معادلته الجديدة في العالم الراهن الجديد. وذلك ظناً من هذا الشرق بأن الغرب بات أضعف من أن يفرض معادلاته، ولكنه ما زال قوياً بما يكفي للتصدي لمحاولات الشرق وطموحاته الجديدة.
تبدو الأزمة الأوكرانية في ضوء كل ذلك وكأنها معركة كسر عظم وليست مجرد ليّ ذراع.
وسواء تم تسخين الحدود الشرقية لأوكرانيا، أو تم التوصل إلى التفاهمات المطلوبة (روسياً) من دون هذا التسخين، فإن الأزمة تظل عميقة في بعدها السياسي المباشر، وخطيرة في بعدها العسكري والأمني وحاسمة في بعدها الاستراتيجي البعيد، وحتى المنظور، ما يؤهّلها للامتداد في الزمن والمخاوف والاصطفافات.
ولأن «بايدن» ومن خلفه أوروبا الغربية القوية والشرقية التابعة الضعيفة لا يستطيع قيادة مركبتين في الوقت نفسه، فهو بات مُجبراً على أن يقود المركبة الأوكرانية وليس الإيرانية.
ولأن بايدن كان ومعه بعض الأوروبيين يسابق الزمن في مفاوضاتهم مع إيران خشية وصول التخصيب إلى نسبة الـ(90%) في غضون عدة أشهر، كما أُشيع من إسرائيل، ومن بعض الأوساط الغربية أيضاً، فإن التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران على قاعدة الاتفاق القديم، وليس على أي قاعدة أخرى بات محتوماً ومؤكداً ومسألة لا مفرّ منها، وقد لا يستغرق التوصل إلى الاتفاق عدة أيام، أو عدة أسابيع قليلة على أبعد الحدود.
لو كانت الأزمة الأوكرانية من نوع الأزمات التي يمكن أن تُحلّ في أمدٍ زمنيٍّ قصير لما تردد الغرب في إظهار بعض التشدد إزاء بعض الشروط أو الاستحقاقات الإيرانية. لكن طبيعة الأزمة الأوكرانية لا تسمح للغرب بهذا الترف.
ولأن «بايدن» يعتبر الأزمة الأوكرانية أولوية مطلقة بالمقارنة مع تلك الإيرانية لأن الأولى كونية والثانية إقليمية، فإن إيران باتت في وضع تفاوضي أفضل من أي وقتٍ مضى عوضاً عن أنها كانت في وضع تفاوضي يُرجّح لصالحها منذ بداية جولات «فيينا» وحتى اندلاع الأزمة الأوكرانية.
وهذا يعني بالملموس أن إيران ستخرج جرّاء هذه الأزمة المستفحلة في أوكرانيا باتفاق هو أقرب إلى رؤيتها، ولن تكون «مجبرة» على تقديم تنازلات من أي نوعٍ كان، لا في مجال دورها الإقليمي، ولا في مجال صناعاتها العسكرية الصاروخية، ولا في قيود استردادها لأرصدتها المالية، ولا في مجال سياستها التصديرية النفطية.
روسيا قدمت في الواقع خدمة «العمر» لإيران، وستكون طهران ممتنّة للرئيس بوتين على هذه الخدمة، ليس لأن روسيا ساعدت على التسريع بالاتفاق النووي الإيراني فقط، وإنما ساعدت على أن يكون هذا الاتفاق في مصلحة إيران، ووفق شروطها، وهذه كلها تعتبر بكل المقاييس من الأرباح الصافية المؤكدة لإيران في ضوء استمرار واستعار الأزمة الأوكرانية، أما إسرائيل فليس أمامها الآن سوى، وإلى أن يتم رُسُوّ الأزمة الأوكرانية على مستقرٍّ ما، أن تنكمش على حالها، و»تضبضب» عدتها وأدواتها، وتنتظر ما سينجم عن هذه الأزمة.
ليس هذا فقط، لأن إسرائيل علاوةً على هذا كله ليس بمقدورها أن تدعم أوكرانيا لأن ذلك سيؤدي إلى استشاطة الغضب الروسي عليها، وهو غضب مكلف للغاية في «حربها» على إيران في سورية، كما أنه ليس باستطاعتها تقمّص دور «الحيادية» لفترة طويلة، خصوصاً وأن الغرب قد يحتاج إلى الغاز الإسرائيلي في حال انقطاع الغاز الروسي، أو حتى بدء انقطاعه عن أوروبا، وحتى وربما احتياجات أمنية أخرى.
وبمعنى آخر فإن إسرائيل جرّاء هذه الأزمة قد انتقلت في غضون أسابيع قليلة من التهديد والوعيد، إلى أهمية أن «تضمن» أن يكون الاتفاق متضمناً للقيود والشروط والضوابط «الكافية» لردع إيران ودورها وطموحاتها، ثم لينتقل الموقف الإسرائيلي إلى الاكتفاء «بشكر» الولايات المتحدة على أنها ــ أي الولايات المتحدة ــ ما زالت تعمل على عدم تمكين إيران من امتلاك سلاح نووي!
الأمر مضحك هنا، إذ يبدو تصريح وزير الحرب الإسرائيلي وكأن الولايات المتحدة قد تراجعت عن موقفها، أو كأنها كانت مع امتلاك إيران لهذا السلاح و»تراجعت» عنه؟!
تصريح غانتس يشرح ويكثف الخسارة الإسرائيلية الصافية جرّاء اندلاع الأزمة الأوكرانية، ويعكس خفوت الصوت الإسرائيلي، والصوت العربي الخليجي والتطبيعي، وشعور كلا الطرفين أن عليهما القبول بالأمر الواقع.
صحيح أن إسرائيل تدرك بعمق أن ليس بوسعها تحويل الأزمة الأوكرانية من تحدٍّ إلى فرصة لكنها (أي إسرائيل) لن تعدم الوسائل في استثمار الأزمة الأوكرانية باتجاهات أخرى.
فمن ناحية ستحاول استجلاب عدة آلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف من اليهود الأوكرانيين، وستعمد إلى أن يكون هؤلاء من القطاعات المؤهّلة، إلا أن الأمر الأكثر خطورة هو أنها ستحاول أن تقدم على خطوات كبيرة، وقد تكون من الخطوات «النوعية» والدراماتيكية في الأرض المحتلة إن كان على مستوى مدينة القدس ، أو حتى إعلانات جديدة بالضم أو هجمات استيطانية بموجات كبيرة، مستغلة انشغال العالم بالأزمة الأوكرانية، وما يمكن أن يكون لها من تبعات وتطورات.
وسواء رغبنا أم لم نرغب، رضينا أم غضبنا فإن إيران قد حققت على ما يبدو الكثير من الأرباح، في حين خسرت إسرائيل من الخسارات ما هو باهظ وكبير، وأظنها لن تفوّت فرصة انشغال العالم بالأزمة الأوكرانية دون أن تحاول التعويض.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية