ليست هي المرة الأولى التي تنكشف فيها المنظومة الإعلامية للغرب وتتعرّى بالكامل. إذا عُدنا إلى (أسلحة الدمار الشامل) حول العراق، وإذا عُدنا إلى كل "الحروب" التي مهّدت لها هذه المنظومة في كامل مرحلة ما بعد انتهاء "الحرب الباردة" نستطيع بكل يُسرٍ وبساطةٍ أن نفهم وندرك الأحجام الهائلة من الأكاذيب والخداع والتضليل الذي تبثه هذه المنظومة.
الحقيقة أن دور وسائل الإعلام قد طرأت على دورها تغيرات نوعية غير مسبوقة، وتحول هذا الدور في مرحلة العولمة، وفي مرحلة ثورة المعلوماتية إلى عصبٍ حيويٍّ يفوق من حيث الفعالية والتأثير دور المعارك الميدانية نفسها، بل يمكن القول بكل اطمئنان أن الحروب والمعارك لم يعد القيام بها من دون دور الإعلام ووسائله ممكناً.
سنحتاج إلى معالجات نظرية وأكاديمية خاصة لمعرفة وتتبُّع هذا الدور على صعيد الأسباب والدوافع، الأشكال والوسائل، وعلى صعيد مستويات التأثير والفعالية والنتائج بالمؤشرات العلمية اليقينية في مقالات لاحقة، أرى أنها على درجةٍ عالية من الأهمية لأن جزءاً كبيراً منها هو في الواقع على تماس مباشر مع قضيتنا الوطنية، وارى أن وسائل الإعلام الإسرائيلية هي في الواقع "شريكة استراتيجية" للمنظومة الغربية، بل وأحياناً تلعب هذه الأخيرة ـ بحكم عوامل سيطرة خاصة على وسائل الإعلام محلياً ودولياً ـ دور المزود والمموّل والملقّن والمفبرك والملفّق للكثير الكثير من تلك الأكاذيب التي أشرنا إليها.
يفترض أن لا نفهم من هذه المقدمة أن المنظومة الإعلامية الغربية كلها، ومن دون استثناء تندرج تحت هذه "المظلة".
الحقيقة أنه مقابل هذه الصورة توجد عشرات الأمثلة التي نجد من خلالها الكثير من الصدق والموضوعية، ونجد الكثير الكثير من الكتابات والتقارير والمعلومات التي تتصف بالنزاهة، وتحرّي البحث عن الحقيقة، ونقل الوقائع بصورة هي أقرب إلى "الحيادية"، أو أقرب إلى حقيقة ما تبدو عليه هذه الوقائع.
كما نعرف فإن أكثر من 90% من التقارير والأخبار التي يتم تداولها "عالمياً" تبثها وتتحكم بها أربع أو خمس وكالات للأنباء، ومصادر المعلومات لمعظم التقارير المصورة والمرئية، عدا المكتوبة والمسموعة يتم "طبخها" داخل المنظومة الغربية للإعلام، ويتم "تحميصها" داخل أفران هذه المنظومة، ويتم توقيتها وتكثيف تدفقها وتركيز الانتباه على بعض المضامين، وبمختلف الأشكال والوسائل فيها وفق استراتيجيات مدروسة، ووفق توجهات تُشرف عليها أوساط متنفذة في البلدان الغربية على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، وعلى المستويات العسكرية والأمنية على حدٍ سواء.
لا يهمّ هذه الأوساط إن تمّ كشف حجم الكذب والتضليل بعد سنين طويلة، لأن دورة انكشاف الأكاذيب غالباً ما تكون طويلة، ما يفقدها التأثير المباشر على الحيّز السياسي العام، ويقلّل من "خسائر" هذا الانكشاف.
لنا في قضية (أسلحة الدمار الشامل في العراق)، وكذلك في الحرب على يوغسلافيا، وفي حروب الغرب على ما يسمى بالإرهاب، وعلى غيرها وغيرها دلائل لا تقبل الشكّ، وآخرها طبعاً الأزمة الأوكرانية، كلما أمكن "الإفراج" عن المعلومات التي تخفي أكاذيب المنظومة الإعلامية الغربية اكتشفنا حجم التضليل والخداع في تقارير هذه المنظومة، وأظننا نعرف، الآن، اعترافات علنية عن تلك الأكاذيب، وعلى لسان قادة غربيين كانوا يصولون ويجولون في العالم الغربي من كولن باول إلى رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ناهيكم طبعاً عن رامسفيلد وعشرات القادة الذين شاركوا في هذه الملاحم والجرائم.
الأزمة الأوكرانية كشفت بوضوح تام أن هذه المنظومة قد افتقرت هذه المرة لعنصر القوة الأساسية التي كانت تتفوق من خلاله، وهو وجود طرف "ضعيف" مقابل قوتها، وأحياناً عدم وجود مثل هذا الطرف من حيث المبدأ.
فهي لا تستطيع (أقصد المنظومة الغربية) وليست صاحبة القرار بالحرب، وهي أعلنت رسمياً أنها لن تكون جزءاً مباشراً منها، كما أن الغرب روّج للحرب وهوّل بهدف "جرّ" الطرف الرئيسي لها، والغرب خطّط لكي تكون مخرجاً له من أزمات كثيرة ليس بالإمكان أن توفرها طالما أن الطرف المقابل ليس ضعيفاً، وليس تابعاً، وله أهدافه وخططه ووسائله، وله استراتيجياته المقابلة.
أزمة الرئيس بايدن بل وفشله حتى، الآن، في مجابهة الصين، و"انسحابه" من افتعال الأزمة معها، هو وزميله رئيس الوزراء البريطاني، والرئيس الفرنسي نسبياً، وتحوّلهما إلى افتعال أزمة جديدة مع روسيا هو أصلاً عنوان فشل وهزيمة، وروسيا كانت تعرف بالضبط هذه الحقيقة وتلاعبت بالغرب من على قاعدة هذه المعرفة بالذات.
فشل المخطط الغربي لجرّ روسيا إلى "الحرب" سيعني قريباً، وقريباً جداً إعادة التفكير الأوروبي بالأمن الأوروبي، وسيعني بدء التفكير الاستراتيجي الأوروبي في الدور الأوروبي "المستقل" عندما يترسّم عالم الأقطاب المتعدد، وحينها ستكون الولايات المتحدة قد خسرت "التبعية الأوروبية الكاملة، وتكون قد انتقلت إلى الحليف "المقرّب" مع الفارق الكبير بين الحالتين.
تحولت المنظومة الإعلامية في غضون أسبوعين أو ثلاثة إلى أُضحوكة مُسلّية في بعض الجوانب، وأصبحت مثاراً للتندُّر و"المزاح" الإعلامي، وتهاوت الكثير الكثير من "صنمية" هذه المنظومة، ومن هيبتها.
وزير الدفاع البريطاني في آخر تصريحاته مازال يُصرّ على أن الحرب ما زالت "مُرجّحة"، وأن روسيا تخادع العالم؟!
أما روسيا فقد تندّرت على إعلام الغرب بأنها الدولة الوحيدة في هذا العالم التي ليست لديها معلومات عن تاريخ الهجوم على أوكرانيا..!
الذي لحق بالمنظومة الإعلامية العربية هو وصمة عار بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
عندما سأل أحد الصحافيين في لندن الراحل الكبير محمد حسنين هيكل عن الإرهاب العربي والإسلامي وعن رأيه بهذا الإرهاب ردّ هيكل بكل وقار:
نعم، هناك إرهاب قادم من المنطقة العربية، وهناك فعلاً ما يمكن وصفه إعلامياً بالإرهاب الإسلامي، لكن دعني أسأل أنا من طرفي السؤال التالي:
تُرى لو كان هناك بثّ حيّ ومباشر لما جرى للهنود الحُمر عندما تمت بحقهم الإبادات الجماعية بعشرات الملايين فهل كان عالم اليوم سيكون كما هو عليه الآن؟!
صفّق الحضور لهيكل تصفيقاً متواصلا لعدة دقائق وقوفاً، لأنه أوجز دور "الإعلام" في المرحلة الجديدة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد