لا أرى في نفسي أكثر من واحد من بين آلاف الكوادر الوطنية الفلسطينية التي تكنّ لحركة فتح كل التقدير والاحترام، ليس فقط لأن هذه الحركة كانت سبّاقة في مبادرتها التاريخية للشروع في الثورة، وفي إعادة «بناء» الهوية الوطنية، وفي استلام الشعب الفلسطيني لزمام أموره وقضيته وحقوقه الوطنية، وفي المساهمة الطليعية الفاعلة في إعادة تأسيس كيانيته الوطنية، وإنما وربما هذا هو الأهم «في المأزق الوطني الكبير الذي نمر به في هذه المرحلة».. لأن هذه الحركة أولاً، هي القادرة بحكم علاقات وتعقيدات الواقع وما يحيط به من كل الجهات على إخراج الحالة الوطنية قبل غيرها، وأكثر من غيرها، من هذا المأزق، ولأنها ثانياً، هي من تمتلك ـ أكثر من غيرها ـ الأدوات والوسائل والامتداد الشعبي، والعلاقات التي من شأنها أن تعيد بناء الحالة الوطنية كلها، وأن تشق الطريق أمام الشعب الفلسطيني لمواجهة الأخطار والتحديات، ورسم الاستراتيجيات والمسارات المطلوبة، وهي ثالثاً، الحركة التي تختزن التجربة الوطنية الحديثة، ويمكنها أن تعاود النهوض والاستنهاض ـ حتى ولو أنها لم تعد قادرة على ذلك دون إدراك عميق للتحولات التي طرأت على هذا الصعيد، وخصوصاً استحالة الذهاب قُدماً دون شراكة وطنية جديدة تستجيب للواقع الجديد.
وفي ضوء ذلك كله فإن الآلاف من كوادر هذه الحركة عليهم بالمقابل أن يحترموا الخلاف والاختلاف حول واقعة الرسوم، وحول غيرها عندما يثار هذا الخلاف من الموقع الوطني الخاص.
وجوهر الأمر هنا هو أن الغالبية الساحقة من كوادر فتح قد ارتأت أن إقامة المعرض: إما أنها كان مقصوداً بها «الإساءة إلى الزعيم الخالد»، أو أنها مثل حالة «الغفلة» التي لا تغتفر، أو أنها تعكس حالة من الارتجال والفوضوية التي تعيشها الحالة الوطنية كلها، وكمؤشر على تهالك المؤسسات وتداعيها.
من هنا، وعلى هذه «القواعد» تعالت الأصوات المطالبة بالتحقيق، في «مبدأ» إقامة هذا المعرض «المريب» في دوافعه، وفي الحضور الرسمي لافتتاحه، وبلغت الحدة في «تقييم» هذا المعرض بكونه «التدشين» الرسمي «للانقضاض» على إرث عرفات، وعلى كل ما مثّله من حكمة وحنكة ورباطة جأش وصلابة وصمود وأنفة وشهامة. وللتوضيح فإن عرفات ليس فقط هو الأب الفعلي للوطنية الفلسطينية الحديثة، وإنما هو أيضاً أحد أهم قادة العالم في القرن العشرين، ويأتي بعد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في المهابة والتأثير والرمزية الوطنية.
عرفات ليس مقدّساً، بصرف النظر عن دوره ومكانته وعظمته، ولأنه ليس مقدّساً فهو كما يخضع للتعظيم يخضع للنقد، ويخضع للمساءلة شأنه في ذلك شأن كل عظماء الأمم والشعوب.
ومن الطبيعي تماماً أن يُرسم عرفات من الرسّامين في فلسطين والعالم كله، ومن الطبيعي أن يتسابق كل الفنّانين في كل أشكال الفنون لتجسيد شخصية عظيمة من وزن عرفات.
وفن الكاريكاتير فن له أهميته الخاصة بالنسبة للشخصيات السياسية عموماً، وللشخصيات المرموقة قدراً ومهابة ومكانة.
وبالتالي عندما «تختلف» الصورة الذهنية عند الناس وعند كوادر الحركة الوطنية، وكوادر فتح عن الصورة التي يجسدها الفنان بالشكل الكاريكاتيري، يحدث موضوعياً نوع من «الصدمة» الأولية والتلقائية التي «تستحضر» العظمة مقابل درجة معينة من «تشويه» هذه العظمة، أو «تصغيرها» أو حتى وضعها في شكل ساخر يستفز ذهنياً الصورة الأولى.
لكن هذا «الاختلاف» بين الصورتين، صورة العظمة مقابل صورة مبعثرة الملامح، «مفتعلة» التفاصيل «الفسيونومية»، والمبالغ بها لجهة إبراز هذه التفاصيل (في الوجه أو القامة أو الجسد) هو اختلاف طبيعي طالما نتحدث عن فن الكاريكاتير، وطالما أن هذه الصورة وبهذا الشكل، وبهذه التفاصيل هي من متطلبات الفن نفسه ومن أدواته التعبيرية.
فقصدية الإساءة هنا تصبح مستحيلة ومستثناة بالكامل، والمبالغة بردة الفعل عليها إلى درجة «تأكيد» القصدية حيالها لا يمكن الموافقة عليها، ولا يمكن إلا الاختلاف معها والتشكيك في نوايا بعض القائمين عليها.
في فن الكاريكاتير لا يوجد جمال في الشكل، ولا يوجد أي قيود على إبراز التفاصيل والمواصفات، ويعود للفنان أو الفنانة درجة الإبراز أو المبالغة أو «التشويه» لأن ذلك يعود إلى فكرة الفنان وهدفه أو رسالته التي أراد إيصالها.
نتفق أو نختلف مع فكرة الفنان، وصلتنا أم لم تصل، وصلتنا بالهدف السياسي المطلوب أم لا، هذا كله ممكن، ومشروع وطبيعي، ولكن هذا كله شيء، وأن نقول أو نعتقد بأنه بسبب هذا الخلاف فإن القصد من الرسم هو الإساءة، أو تصفية «الحسابات» السياسية فهذا شيء آخر، وهو ليس مشروعاً ولا طبيعياً، لأنه ليس صحيحاً على الإطلاق.
ولا يجوز لنا أن نستحضر الخلافات السياسية أو الاختلافات داخل الأطر والمؤسسات السياسية والحزبية في النظر والتقييم للعرض.
فن الكاريكاتير ليس فنّاً شعبياً، والصورة التي لدينا عن هذا الفن لا تحتمل معرفة كافية بأدواته التعبيرية، كما أن درجة «الانفلات» في رؤية الخلافات والاختلافات السياسية الحزبية، وما بين مكونات الحالة الوطنية، وفي إطار الصراعات المحتدمة على استراتيجيات العمل الوطني، وعلى السلطة السياسية، وامتيازاتها ومزاياها وخطاياها وعلى المصالح التي تقف خلفها، كلها تذكي هذه الخلافات والاختلافات وتؤججها وتستحضرها دفعة واحدة.
والمضحك المبكي في آنٍ معاً أن الذين داسوا على صور الزعيم الخالد قد وجدوا أنفسهم، ونحن وجدناهم أمامنا وهم «يدافعون» عن صورته التي «اهتزت» جراء تلك الرسومات.
يا سبحان الله، وأي نفاق يمكن أن يتفوق على نفاق كهذا؟!
ثم أخيراً فإن الآلاف المؤلّفة من الناس، ومن كوادر حركة فتح التي شعرت بخدش كبير أو صغير جراء هذه الرسومات، ولأسباب وطنية، تتعلق بالوفاء للزعيم عرفات، وبالتمسك بإرثه الخالد عليها أن تعرف أن عرفات نفسه كان شخصاً مثقفاً ومتحضراً مدركاً لقيمة الفن والثقافة، وكان يتحمل المعارضة والخلاف والاختلاف، وكان الزعيم أبو عمار في نظرته للخلاف كبيراً، ومترفعاً، يقبل الآخر المختلف وأحياناً كان هو من يدافع عن هذا المختلف.
ولولا أننا في السنوات الأخيرة بدأنا نفقد الكثير من هوامش حرية الاختلاف لما كان أصلاً قد وجد مثل هذا الخلاف، وإلى هذه الدرجة من التهويل.
دعونا نختلف، ولكن دعونا أيضاً نُحسن تنظيم هذا الاختلاف، لأن مقياس حضارية السلوك يكمن في هذه المسألة بالذات، طالما أن الاتفاق عندما يتحقق لا يحتاج إلى عبقرية خاصة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية