للحرب وأسبابها حسابات معقدة، تتداخل فيها المصادفة مع التخطيط المسبق مع الحسابات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية ومزاج القادة، ولأن منطقة مثل غزة شديدة التعقيد ولأنها امتهنت الحروب ولم تعد تعرف بطالتها يظل السؤال القلق دوماً مع كل تصريح وكل تهديد مطروحاً على لسان الغزيين الذين وجدوا أنفسهم عالقين في وضع على أهبة التفجر دوماً، وباتت الحياة بالنسبة لهم وقتاً مستقطعاً بين حربين.
تتكرر مناخات الحرب التي لم تتغير منذ عقد ونصف العقد منذ أن طردت حركة حماس السلطة من قطاع غزة ، لتفرض إسرائيل حصاراً مشدداً أنتج ما يكفي من أسباب الحرب على امتداد تلك الفترة لتشهد خلالها أربع حروب مدمرة منها ثلاث تمت بمبادرات إسرائيلية والرابعة منها فقط كانت بمبادرة من حركة حماس لتخفيف الضغط عن حي الشيخ جراح.
الآن أعطت الفصائل المسلحة في القطاع إنذاراً ينتهي هذا الأسبوع أي يوم الخميس تم نقله عبر مصر بأنه «إذا لم تتخذ إسرائيل خطوات عملية جادة على الأرض تخفف من الحصار وتزيل كل العقبات التي تضعها لإعاقة إعمار ما خلفته جولات التصعيد العسكري الماضية فإن كافة الخيارات ستكون مفتوحة في الثالث عشر من هذا الشهر». ما يعني صراحة الدخول في مواجهة جديدة بمبادرة الفصائل المسلحة.
يستند هذا الإنذار إلى تجربة الأشهر الأخيرة، حرب أيار الماضي، والتي نفذت حينها الفصائل تهديدها وأحدثت قدرا من التضامن وكان لسرعة نهايتها ما يشجع الفصائل على استمرار التهديد، والقضية الأخرى التهديد بعمل مسلح إذا ما استشهد الأسير الفلسطيني المضرب عن الطعام هشام أبو هواش ليتدخل الوسيط المصري والسلطة أيضاً لنزع فتيل حرب كانت تبدو جدية لدى الجهاد الإسلامي الذي وضع قواته في حالة جاهزية تامة فيما لو استشهد أبو هواش.
استجابت إسرائيل للوساطة لوقف حرب أيار وبدا حينها أنها تجرعت طلب وقف الحرب بعد أن ماطلت لأيام باحثة عن رأس كبير يحفظ لها شكل النهاية، وكان شكل النهاية يعطي للفصائل شعوراً بالنشوة ليلعب دوراً في تكرار التهديدات، وجاءت استجابة إسرائيل للصفقة مع الأسير أبو هواش لتؤكد استغلال اللحظة وصحة الفصائل في قراءتها بأن إسرائيل لا تريد الحرب بل إن يدها ليست طليقة لإشعالها كما المرات السابقة.
كلمة السر هنا ليست الوضع الداخلي الإسرائيلي، فرئيس الوزراء الجديد لم يخض حرباً، سابقاً، وربما يتوق لها ليضيف لتاريخه القصير لدى الإسرائيليين كرجل مقاتل ومحافظ على قدرة الردع الإسرائيلي.
فقد بدأ بعض الكتاب في إسرائيل يشيرون إلى تآكل هيبة إسرائيل بعد صفقة هشام أبو هواش على المدى الاستراتيجي، لكن كلمة السر تكمن في البيت الأبيض على طاولة الرئيس بايدن الذي امتد لهيب حرب أيار إلى عتبة مكتبه ومؤسسات حزبه وأدرك خطورة المعركة بين غزة وإسرائيل وتأثيراتها على مصالح الولايات المتحدة ومستقبل الحزب الديمقراطي.
كان الأكثر وضوحاً في التعبير عن المناخات الجديدة حينها الكاتب الأميركي المخضرم توماس فريدمان والذي قال إن الحرب كادت تفجر الحزب الديمقراطي، ناقلاً عن رئيس مجموعة «ريوت غروب» البحثية جيدي غرينشتاين قوله: «الناس يحتاجون إلى فهم كون هذه القضية تغيرت في الأسبوعين الماضيين لقد تحولت مكانة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي داخل المجتمع والسياسة الأميركية من خلاف بين الحزبين إلى إسفين» وإن الخلاف أصبح الآن يدق إسفيناً ليس بين الديمقراطيين والجمهوريين ولكن بين الديمقراطيين أنفسهم.
جاء هذا مع بروز مواقف حادة لمجموعة التقدميين داخل الحزب الديمقراطي الذي كاد ينشق بسبب الصراع كما كتب فريدمان، وكان ذلك يمثل خطاً أحمر بالنسبة للبيت الأبيض وساكنه.
حينها اضطر الرئيس الأميركي أن يكسر قراره بمقاطعة الرئيس المصري ويهاتفه مدركاً أن مصر الوحيدة التي يمكن أن تتدخل لوقف الحرب، وأيضاً توقف عن تجاهله للرئيس الفلسطيني وهاتفه ثم أرسل هادي عمرو للوقوف على الوضع ولضمان عدم تكرار ما حدث.
وهنا برزت بوضوح السياسة الأميركية تجاه الصراع «افعلوا كل شيء إلا التصعيد الذي سيخل بالمعادلة الأميركية الداخلية، الهدوء ولا شيء غير الهدوء «وهذا يتكفل به طرفان، واشنطن مع إسرائيل والقاهرة مع الفصائل.
إذ يبدو أن واشنطن انتقلت من مرحلة الترحاب بالحكومة الجديدة ورعايتها إمعاناً في تصفية الحساب مع بنيامين نتنياهو إلى مرحلة الضغط بمساراته المتعددة إما ضغطا بالتواصل أو ضغطاً بالتجاهل وشبه المقاطعة لرئيس وزرائها.
هذا ما تقرأه الفصائل وهي تتصرف على حافة الهاوية عندما تهدد بالسلاح كبديل عن استخدامه متكئة على معرفتها بكلمة السر الأميركية التي لم تتوقف عن مطالبة مصر بالتدخل الذي تكثف في الآونة الأخيرة، تلك معادلة أنتجتها ظروف ومستجدات تعني بقراءة السياسة أن ليس هناك حرب قريبة، تقدم إسرائيل بعص التنازلات بناء على الرغبة الأميركية لتجنب التصعيد.
وكما درجت العادة تقوم إسرائيل بسحبها لاحقاً في لعبة الخداع المستمرة منذ خمسة عشر عاماً دون رفع الحصار الذي لم تتصور حماس أنه سيستمر كل هذا الوقت وربما كانت اتبعت سياسة مغايرة، لكن الإسرائيلي دأب على إيهامها بأن رفع الحصار ممكن وهو ما أطال مدتها في إطار استمرار إسرائيل للحفاظ على الانقسام حيث تلعب إسرائيل ما بين استمرار الوضع المختنق وعدم السماح بانهياره وهو ما قد ينهي الانقسام.
لا يعني ذلك الجزم تماماً بابتعاد الحرب، لأن اللعب على حافة الهاوية أحياناً على درجة من الخطورة تزيد معه احتمالية الانزلاق بسبب خطأ صغير قد يقلب كل التقديرات لأن للحرب حسابات معقدة كما ذكر في البداية، ولأن كثرة التهديدات ستضع نفتالي بينيت في موقف حرج أمام خصومه كما يبدو الآن وفي لحظة ما قد يصبح بحاجة لتصعيد مستغلاً أن تبدأ به الفصائل، ليس هناك حرب لأسباب أميركية، السياسة مثل الكيمياء قد يدخل عنصر مفاجئ ويقلب المعادلة، لكن المسار لا بد أن يعكس أزمة مستقبلية لأحد أطراف المعادلة «إما الفصائل أو نفتالي بينيت» قد يحتاج لتقدير آخر..!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية