تتذكرون عام الحسم الساداتي؟من يستذكر ذلك العام الآن، ويسترجع حالة الصخب السياسي التي رافقته، والجدل الذي دبّ في كل أرجاء الوطن العربي آنذاك يستطيع أن يقارن بين ذلك الصخب والجدل وبين ما يجري لدينا من صخب وجدل حول هذا العام، إن كان لجهة الاستحقاقات أو التوقعات.
كان السادات في ذلك العام يحضّر لحرب أكتوبر، ووعد أكثر من مرة ثم تراجع، مرة "بأعذار" سياسية، ومرات ومرات بأعذار تقنية، وظروف جوية، وغيرها وغيرها إلى أن حسم فعلاً وأقدم على تلك الحرب التي انتهت كما نعرف بتغييرات طالت وجه الإقليم كله، وحددت وجهته أيضاً.
مفهوم الحسم هنا، أقصد في الحالة الساداتية كان الخروج من حالة اللاسلم واللاحرب إلى حالة جديدة ستعتمد على نتائج تلك الحرب من جهة، وعلى حدود الأهداف فيها من جهة أخرى.
ما أن توقفت المعارك، أو بالأحرى، ما أن تم إيقافها حتى اشتغل الصخب والجدل في كل الوطن العربي من جديد بأضعاف مضاعفة عما كان عليه قبل "الحسم"، وتراوحت التقييمات لتلك الحرب بين التخوين والمؤامرة من جهة، وبين الحرب "التحريرية" المجيدة والخالدة من جهة أخرى.
الأمر الوحيد والأكيد أن ذلك "الحسم" قد غير الواقع آنذاك، وأحدث الكثير من التطورات والمستجدات والانقلابات التي ما "زلنا" نعيش في ظلالها، و"نعاني" أو "نعتاش" على نتائجها.
عام الحسم الفلسطيني، إذا ابتعدنا عن المقارنات الميكانيكية المتسرعة، وإذا ما جرت المقارنة بالبعد الجوهري لما يمكن أن ينطوي عليه هذا الحسم، ولما يمكن أن يترتب عليه، ولما يمكن أن يحدثه من تطورات ومستجدات قد تكون له من الآثار والنتائج ما يوازي ويماثل التي ترتبت على تلك الحرب.
فما هو مفهوم وجوهر هذا الحسم؟
وبأي معنى يمكن أن تترتب على هذا الحسم نتائج كبيرة، ومستجدات ومتغيرات كبيرة؟
نلاحظ في الآونة الأخيرة، وتحديداً في النصف الثاني من العام المنصرم في الساحة الفلسطينية، نشوب صخب وجدل حول جملة من الوقائع الكبيرة والجوهرية، لعلّ من أهمها: ازدياد وتعمق، وربما الوصول إلى وعي عام، وإلى قناعات جديدة، هي أقرب إلى الراسخة، أن طريق التسوية السياسية مع إسرائيل بات موصداً تماماً، وأن هذا الطريق قد تم إفشاله من قبل إسرائيل بوعي وتخطيط كاملين، وأن البحث عن شريك إسرائيلي من داخل أو صلب الخارطة السياسية في إسرائيل هو محض وهم خالص، وأن المشروع الصهيوني أبعد وأعمق وأخطر بكثير مما كنا نظن، ومما كنا نراهن، وأن المراهنة على تغيرات في هذا الإطار في المدى المنظور هي أوهام لم يعد لها في الواقع القائم أي رصيد يذكر.
ومن ضمن القناعات الجديدة أن المنظومة السياسية الفلسطينية تعيش في شقها الإسلامي أزمة انتماء وطني وفي شقها اليساري تعيش أزمة هوية ودور وفعالية وتشتت في الخيارات والانحيازات، في حين تعيش في شقها الوطني أزمة تجدد وتجديد ومراجعة، إضافة إلى الكثير الكثير من تعويم الالتزام وهلامية التنظيم وتعدد مراكز القوة والنفوذ داخلها وعلى هوامشها أيضاً.
والقناعة الأخرى التي باتت راسخة أيضاً أن الانقسام قد تجاوز كونه حالة خلاف واختلاف، أو تناقض وتعارض برنامجي، أو حتى اجتهادات حول المساومة أو المقاومة، وإنما بات هذا الانقسام أداة لتشتيت الحالة الوطنية، ومعولاً لهدم المشروع الوطني بما ينطوي عليه هذا المشروع من حقوق وأهداف، وليس فقط بما ينطوي عليه من نهج أو برنامج، وأن هذا الانقسام بات محاطاً ومسلحاً بجملة من المصالح والامتيازات، وسبباً "جوهرياً" للدور والمكانة، ودافعاً مباشراً لكل سياسة ولكل ممارسة سياسية.
وترسخت القناعة بأن المحيط العربي والإقليمي بات عبئاً على الكفاح الوطني، بل تحول إلى معول لهدم الحالة الوطنية أو تدجينها، والضغط عليها وابتزازها تحت طائلة الخنق والحصار والتجويع "أملاً" في القبول بالشروط الإسرائيلية المباشرة "للحل" أو غير المباشرة المغلفة بتحسين ظروف المعيشة، أو تقليص الصراع، أو الاقتصاد مقابل الأمن، أو غيرها الكثير من البدائل والمسميات تحت شتى أنواع الدوافع والمسببات.
وبات الشعب الفلسطيني على قناعة راسخة وتامة، بأن الإدارة الأميركية الجديدة ليس لديها ما تعارض به السياسات الإسرائيلية، وليس لديها ما تعترض به على ما تقوم به من عملية متواصلة من قتل كل حل سياسي ممكن، وهي (أي الإدارة الأميركية) تقف خلف كل هذه البدائل والمسميات، أو تشجعها وترعاها وتعمل وفقها وعلى هديها، ولا ترى بديلاً عنها.
وأن بقية مكونات المجتمع الدولي ليس لديها القوة ولا الإرادة لتكون بديلا فعالا لهذا الواقع.
وفي ضوء كل هذه الوقائع وهذه القناعات الجديدة فإن الشعب الفلسطيني بات مقتنعاً أشد القناعة بأن بقاء الحال أصبح من المحال، وأن السكوت عن كل ما يجري، أو الاستسلام له، أو الاسترخاء في مواجهته ومقاومته سيؤدي إلى تهديد حقوقه وأهدافه، بل تهديد وجوده الوطني، وتصفية كيانيته وهويته، ووضع كل ما حققه من دور ومكانة، وما أنجزه من صمود وبطولة، وما بذله من تضحيات في مهب الريح، وفي موضع التهديد والتبديد.
ولهذا، وفي ضوء اشتداد هجمة الاحتلال الاستيطانية، وفي ضوء تغول دور المستوطنين، وأدوارهم الجديدة، وفي ضوء وصول المخططات الإسرائيلية إلى التهام أكثر من نصف الضفة حتى الآن، وتحول المشروع الصهيوني المباشر من تدمير الجغرافيا الفلسطينية تمهيداً لتشتيت الديموغرافيا الفلسطينية، بعد تشويه التاريخ والرواية الفلسطينية. وفي ضوء وجود برامج متكاملة للانقضاض على الشعب الفلسطيني في الداخل كما في الخارج كما في المحتل والمحاصر من الأرض الفلسطينية فإن الشعب الفلسطيني ينظر إلى العام الجديد بأنه عام الحسم.
لن ينتهي هذا العام قبل أن ينتفض هذا الشعب في كل أماكن تواجده دفاعاً عن وجوده وحقوقه وأهدافه.
الشعب الفلسطيني، شعب المعجزات والمفاجآت سيعرف كيف يدافع عن قضيته الوطنية، وسيفرض وجوده الوطني ويعيد رسم الحدود والتخوم والخرائط.
فمن أراد أن يصدق فليبدأ بالعمل من الآن، ومن أراد أن يلتحق فعليه أن يعد العدة منذ الآن، ومن أراد أن يشارك ويتصدر فليراجع مليّاً، وينظر إلى وجهه في المرآة، ومن أراد أن يستخلص العبر والدروس فهي لا تحصى ولا تعد، ومن أراد أن يتنكر لهذا كله، وأن يتنصل من هذا كله، وما زال يرى أن دوره ومكانته "محفوظة" بقدرة قادر، أو تاريخ عابر أو غابر، أو بدعم من "صعوبات المرحلة" وضغوط المعيشة على الناس، ومن ضيق حالهم وأحوالهم، أو أن يراهن على قوة الخارج ومراهنته عليهم، فلا يلومنّ إلاّ نفسه.
في هذا العام سينطلق من ثنايا وتشابكات وصعوبات مرحلة قد انتهت، الفجر الفلسطيني الجديد، الذي يعيد ترتيب الأمور وفق أجندة شعب حر يملك إرادته وأدواته، ويملك كل أسباب القدرة على الصمود والمواجهة، بتوقيت فلسطيني خالص.
بشائر عام الحسم تطل من كل الجهات للذين ما زالوا قادرين على النظر، وعلى السمع والإنصات، وعلى الإحساس بالقادم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية