بعد مرور ثلاث سنوات على إسقاط نظام حكم الفرد المستبد عمر حسن البشير في السودان، ما زال الشعب السوداني العظيم بإرثه الكفاحي المدني يقاوم نظام الاستبداد العسكري، في مشهد يؤكد ما كنا نقول به منذ وقت، بأن كفاح الشعوب العربية من أجل الحرية والديمقراطية، لا يقتصر على مجرد إسقاط رموز أو رؤوس أنظمة الاستبداد القائمة، ذلك أن الاستبداد أقام نظاماً عبر عقود مضت، يرتكز على أجهزة امنية، وعلى نظم اجتماعية واقتصادية، وكذلك على ثقافة عامة، تقوم على الطاعة والتسليم، والقبول بما يقرره الحاكم او المسؤول، دون نقاش او تردد.
ولكن رغم ما يحدث اليوم في السودان، فإن إسقاط البشير قبل ثلاثة أعوام، كان حدثاً فارقاً ومهماً جداً، ذلك أنه وجه ضربة شعبية لنظام الاستبداد، فيما حاول النظام العسكري بعد سقوط البشير، أن يعيد ترتيب أوراقه للبقاء على كرسي الحكم، وكان أن اتفق ما سمي بالمكون العسكري مشكلاً من قادة الجيش، مع المكون المدني الممثل للأحزاب السياسية التقليدية السودانية، إضافة لقادة الحراك الشعبي الميداني والمستقلين، على فترة انتقالية تتم خلالها تهيئة البلاد لانتخابات رئاسية، جوهرها تسليم الحكم بالكامل للشعب، وفق ما ينتج عن صناديق الاقتراع.
لكن المكون العسكري، لم يلتزم بالاتفاق، ونكص عما سبق وأن تعهد والتزم به أمام الشعب، بل إنه أكثر من ذلك قام باعتقال قادة المكون المدني في الحكومة الانتقالية، بمن فيهم رئيسها، عبد الله حمدوك، وذلك بشكل تعسفي انقلابي، بهدف فرض سيطرته من خلال طرد الأحزاب المشاركة في الحكومة، وتشكيل حكومة تكنوقراط، وبذلك يستند نظام الحكم على مجلس سيادة عسكري بصلاحيات رئيس الدولة، مع حكومة شخصيات مستقلة دون إسناد حزبي أو جماهيري، لتكون مجرد موظفين تنفيذيين لما يقرره مجلس السيادة العسكري.
الغريب ان انقلاب المكون العسكري على الاتفاق الناجم بعد الثورة التي أطاحت بالبشير، لم يواجه دولياً بما كان متوقعاً أو مفترضاً، خاصة من قبل الولايات المتحدة بإدارتها الديمقراطية، وذلك يعود بالطبع الى الدعم الإسرائيلي للمكون العسكري الذي كان قد دفع بالسودان العام الماضي للتورط بالانخراط في اتفاقيات أبراهام التطبيعية، ورغم أن المكون العسكري نجح جزئيا بناء على الصمت الدولي تجاه ما ارتكبه من «انقلاب عسكري» على الحكومة الانتقالية، وذلك بعد نجاحه في «اقتناص» عبد الله حمدوك، الذي كان ينظر له على أساس أنه عنوان الثورة أو على الأقل رمز المكون المدني للحكم الانتقالي، بعد أن أجبره مع الضغط الدولي من تحت الطاولة على قبول نتائج الانقلاب وقبول الأمر الواقع، بتشكيل حكومة التكنوقراط، والتضحية بشركائه السابقين من ممثلي الأحزاب السياسية، إلا أن مرور شهر كامل على اتفاق رأس النظام العسكري عبد الفتاح برهان، مع عبد الله حمدوك، دون أن ينجحا في تشكيل تلك الحكومة، يعني بأن نجاح عسكر السودان في احتواء الثورة الشعبية، وقصرها على قطع رأس النظام السابق، وقطع طريقها بالتحول بالسودان من نظام حكم الفرد المستبد لنظام الحكم المدني الديمقراطي، لم يتحقق بعد، وأن هزيمة نظام الاستبداد على الصعيد السياسي أولاً أو على الأقل منوط بمواصلة الشعب السوداني لاحتجاجه المدني، ولمعارضته كل تلك الإجراءات التي يقوم بها العسكر من أجل إعادة ترميم أركان نظام الاستبداد بمحتواه العسكري.
لكن ما حدث ويحدث في السودان يكشف بشكل جلي وواضح، ربما أكثر مما حدث في نماذج الثورات الشعبية العربية، إن كان في تونس أو مصر، أو الجزائر، ولكن ربما بدرجة أقل مما حدث في ليبيا، سورية، العراق واليمن، من تدخل القوى الخارجية، لأنها تفعل ذلك في السودان من تحت الطاولة، نظرا الى أن المواجهة العسكرية لم تحدث في السودان، أي أن اندلاع الحروب الداخلية أو الأهلية كشف بشكل جلي التدخل الخارجي، في حين أن استمرار الصراع السياسي بشكل مدني لا يعني بأنه ليس هناك من تدخلات خارجية، ولكنها تجري بشكل خفي.
تكاد تكون إسرائيل أولاً ومن ثم الولايات المتحدة ثانياً، أكثر دولة تتدخل في الشأن السوداني الداخلي، فإقدام المكون العسكري على انقلابه على المكون المدني حدث بعد واقعة مناقشة وزراء خارجية الاتحاد الإفريقي لقرار أمينه العام اعتماد إسرائيل عضواً مراقباً في الاتحاد، وذلك لمعاقبة وزيرة خارجية السودان مريم الصادق المهدي، ومعها حزبها وكل الأحزاب التي كانت تشارك في الحكومة الانتقالية نظراً لرفضها التطبيع مع إسرائيل.
ويبدو بأن التوغل في أفريقيا هو هدف كبير لإسرائيل، حيث يعتبر السودان مدخلاً لوسط وشرق القارة، وجسر الاتصال بين العرب والأفارقة الذين يشكلون أهم طرفين لسكان القارة السمراء، ويبدو أيضا بأن دخول إسرائيل للقارة السمراء من الباب الواسع، خاصة بعد اتفاقيتي التطبيع مع السودان والمغرب، يدفع الدول الإفريقية لإقامة العلاقات الطبيعية مع إسرائيل والتي ظلت منقطعة تأثرا بالمقاطعة العربية، خاصة من قبل الدول العربية الإفريقية.
بالطبع إفريقيا تمثل كنزاً بثرواتها الطبيعية، ولما تمر به العديد من دولها من مشاكل اقتصادية، وذلك لدولة لديها طموح امبراطوري كإسرائيل، ترى بأن الاستعمار القديم، ممثلاً بكل من فرنسا، بريطانيا، ثم أميركا يخرج من القارة وكذلك من الشرق الأوسط، بما يجعل إسرائيل تحلم بوراثة الاستعمار القديم والجديد، باستعمارها من خلال التوغل الاقتصادي والسياسي وحتى العسكري.
وبالطبع أيضا فإن طموح إسرائيل قد بدأت شهيته بالت فتح في الشرق الأوسط مع «أبراهام»، أما طموحها نحو الشرق فيصطدم بإيران، والتي لو تجاوزتها لذهبت للهند والفلبين، لذا فإن طموحها بالتوغل ينتقل من الشرق الأوسط لإفريقيا عبر بوابة السودان، ولهذا فإن ما يحدث في السودان اليوم يعتبر أمراً في غاية الأهمية والخطورة، ليس لأنه يقرر مصير الشعب السوداني مع نظام حكمه الداخلي وحسب، بل لأنه يقرر أيضا وجهة أفريقيا التي سيكون قدرها، إن نجحت إسرائيل في دخولها كما ترغب في أن تواجه استعماراً جديداً، سيكون كابحاً لحريتها وتقدمها وتنميتها، بل مفجراً لحروب داخلية فيها، لا حصر لها.
ما يؤكد بأن إسرائيل ذاهبة للعبث في أفريقيا هو أنها بدأت تضع حدوداً بين من هو في صفها ومن هو ضدها، ولعل في سعيها الى إقامة تحالف أمني مع المغرب، يهدد أمن الجزائر ويحاول العبث بداخلها، كما تحاول أن تفعل مع الإمارات والبحرين بإقامة حلف أمني ضد إيران، ما يؤكد بأن إسرائيل، لا تكتفي بالعبث بالشرق الأوسط وحسب، بل إنها باتت محكومة بعقلية استعمارية امبراطورية، لن يطول الوقت حتى تواجه بصد إقليمي متعدد الأطراف والأشكال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية