لم يعد النقاش حول مستقبل غزة يقتصر على جدوى المصالحة وممكناتها ورغبة حماس في التعاطي الجدي مع ما يتم الاتفاق عليه أو رهنها كل القضايا الجوهرية ببعض القضايا المطلبية الخاصة بحكومتها السابقة، من الواضح أن ثمة نقاشاً آخر يدور حول مستقبل غزة الآن يتعلق بعضه بـ "حماس" وبتوجهاتها المستقبلية خاصة في ظل ظهور بعض الاشارات حول فرص تحقيق اتفاق سياسي فرعي حول غزة، وبعضه الآخر يتعلق بفرص ظهور دولة الإسلام أو ما يعرف بداعش في القطاع ومقدرتها على تشكيل تحد لحماس ولحكمها على القطاع الذي استمر الآن ثماني سنوات.

لا يستبعد البعض مثل هذا السيناريو في ظل التحولات الاقليمية العاصفة وفي ظل عدم استقرار الحالة الوطنية.
يمكن للمرء في القطاع أن يلاحظ الكثير من دلائل هذا الصراع على الأرض من جهة نصب الحواجز المستمرة في الليل وفي نقاط متقاربة وتفتيش السيارات بجانب بعض البيانات التي تصدر على مواقع الانترنت وتتوعد فيها داعش حماس وحكمها.
وربما من طرائف القدر أن يكون المستهدف في هذا التفتيش هم أصحاب اللحى ومن يبدو عليهم التدين ربما الزائد، فيما يمكن لمن هم غير ذلك أن يتيقنوا حين يجدون حاجز تفتيش أنهم لن يكونوا مستهدفين.
بالطبع النقاش حول مستقبل داعش أكبر من حماس حيث إنه نقاش إقليمي وساحات اشتباكه اوسع من قدرات حماس، لكن غزة بما تشكله من مدخل لمثل هذا النقاش إلى عمق الصراع العربي الإسرائيلي تظل مميزة.
وربما لم تفهم حماس فلسفة السلطة قبل ذلك في محاربة التطرف بكل أشكاله ومجابهة أي استخدام للدين في العمل السياسي أو لنقل توظيف الدين لغايات حزبية صرفة.
إذ إن الأساس في الدين أن يكون خالصاً لله وليس أداة في يد البشر للبطش وللتحكم من خلالها في خلائق الله. وإذا كان الدين بما يشكله من قيم سامية وروحانيات عالية وناظم للأخلاق ومحفز للبناء والرقي قد تحول إلى شعار حزبي مغلف بالبلاغة ومستحضراً التاريخ ومستدعياً الشواهد التي يمكن تطويعها، فإن الدولة والنظام السياسي يتحولان إلى ساحة نقاش وخلاف فقهي وأداة ليس لاكتساب الشرعية بل لمحوها.
ما لم تفهمه حماس قبل ذلك أن التطرف لا حدود له وان استخدام الدين يشكل انتهاكاً لحرية الأشخاص ولمعتقدهم حول دينهم لأنه يشكل محاولة لاحتكار الدين ولاحتكار الحلال والحرام والصح والخطأ.
إن الاعتداء على معتقد الآخرين بحجة امتلاك الحقيقة لهو انتهاك لتطور المجتمع وفرض قيود على تمظهره وتجلياته، وكما لا يمكن التمييز بين غياب الحرية والاعتداء عليها فإنه من غير الممكن بأي حال من الأحوال التمييز بين تطرف وآخر وبين استخدام للدين واستخدام مختلف، فالنتيجة واحدة والذي يختلف هو رأي وموقف وغايات وتفسيرات "المستخدم"، أو "الموظف" الذي يجيد ويبرع في وضع مقولات لاهوتية حازمة وقاطعة حول صوابية امتلاكه للحقيقة، وبطلان ما سواه من رأي.
وإلا كيف يمكن تفسير وجود اكثر من حزب سياسي إسلامي، على الساحة الفلسطينية عما قليل سيربو تعداد الأحزاب السياسية الإسلامية والسلفية على تعداد ما أفرزت السياسة الفلسطينية الفاعلة من أحزاب. وإذا كان الامر كذلك فإن ثمة خطأ في فهم مكانة ودور الدين، ومكانة ودور الدولة في تنظيم علاقات المواطنين، كما أن الخطأ الاكبر كمن في فهم أن ثمة حدوداً للتطرف، وهو خطأ من يفترض مثلاً أنك إذا اشعلت النيران في البيدر يمكن لها أن تقف عند حد ولا تلتهم كل القرية.
فجوهر الأشياء لا يكمن في اعتقادنا الفردي والحزبي حولها، بل في جدليتها وصيرورة تطورها. من هنا فإن النقاش اللاهوتي الذي كانت تديره حماس مع السلطة – والذي هو بعيد كل البعد عن حقيقة الصراع المحموم على السلطة الذي كانت تقوده - ها هي تتعرض له الآن ومن ذات المربع وبنفس الأدوات، بل وبشراسة أشد من جهة فهم الدين ودوره، لأنك إن زعمت أنك امتلكت الحقيقة وقاتلت وأسلت الدماء في سبيل ثني الآخرين عن التفكير في أن لهم قسطاً منها، سيأتي من يزعم مثلك أنه يمتلكها وسيستخدم كل السبل من أجل البطش بك لانتزاع هذا الزعم منك، لأن الحقيقة مثل كل الأشياء المطلقة غير موجودة في حوزة أحد ما، بالتالي يسهل السطو عليها، فيما جوهرها يكمن في الاتفاق حولها.
إن الضمانة الوحيدة للحفاظ على القليل المتبقي من غزة هو وجود التفاف جماهيري شعبي وفصائلي حول برنامج حماية غزة من الانزلاق إلى التطرف الأعمى الذي لا يخدم إلا الاحتلال وسياساته، وهذا الالتفاف يجب أن يكون تجسيداً لفهم جديد لطبيعة المرحلة التي يمر بها شعبنا والقطاع المنكوب، وليس بحثاً عن مخارج مؤقتة.
وهذا تحديداً مطلوب من حماس، التي عليها أن تقر بأن حماية غزة تتطلب عودة الوحدة الوطنية لغزة وعودة غزة لحضن النظام السياسي واتفاقها مع بقية الفصائل على هوية غزة، هذه الهوية التي ساهمت حماس كثيراً في حرفها عن سياقها الوطني.
إن فتح نقاش وطني حول ذلك مع بقية مكونات العمل السياسي على قاعدة أن الجميع شركاء في المستقبل لأنهم يتعرضون لنفس المخاطر اليوم، وعلى قاعدة تنفيذ اتفاق المصالحة، كما أن جزءاً مهماً من ذلك يتضمن ضرورة فتح حوار تسامحي مع بعض القوى السلفية من أجل توسيع جبهة محاربة التطرف الأعمى والمستقبل الاسود، وان جزءا مهما من ذلك بالطبع هو تخفيف التطرف الموجود أصلاً في بعض الدوائر الرسمية وتعزيز روح التسامح وتقبل الآخر في خطابنا في المساجد والمدارس كما في ممارساتنا مع بعضنا بعضاً، حتى لا يأتي يوم يكون فيه مثل هذا النقاش خارج الزمن.
ثمة الكثير الكثير الذي يمكن عمله، لكن المؤكد الوقوف في وجه الموجة وحده لا ينجي من الغرق.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد