كل مرة يتكرر سؤال: ما العمل؟ وهو السؤال الذي أصبحت تفتتح به كل ورش الحوار والنقاش ومحاولات البحث عن حلول كأن مفاتيحها ألقيت في أبعد البحار، عشرات الندوات والورش بل المئات المنعقدة منذ سنوات لا زالت تكرر سؤال الأزمة بل الأزمات المستنسخة في هذا الوطن والتي تتزايد مع ازدياد حالة الانهيار التي تهبط بكل الأشياء إلى مستويات جديدة ولا زالت كل اللقاءات تعيد نفس الإجابات المكررة والتي لم تعد تساوي الوقت المهدور.
كأن كل محاولات البحث عن حلول قد فشلت، فالأجواء العامة هنا في غزة و رام الله يخيم عليها إحباط لحالة الاستعصاء القائمة وتنبع تلك الحالة من انعدام الخيارات والبدائل، وانعدام إيجاد حلول لواقع آخذ في التدهور بلا قاع، ومع الزمن يتلاشى الحلم الذي كان يوما ما قبل أن تنكسر المحاولات والحوارات ونكتشف أن لا مصالحة ولا عودة لحكم واحد ولا تواصل بين غزة والضفة واستمرار هذا البؤس الإنساني في غزة والبؤس الوطني في الضفة.
آلاف أوراق العمل قد وضعت، كل العقول الفلسطينية في الداخل وفي الشتات قالت كل ما لديها ووضعت أفضل الحلول وأكثرها شمولية بدءا من الكهرباء وإعادة بناء النظام السياسي ومنظمة التحرير وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني والانتخابات وسبل مواجهة إسرائيل على الصعيد الميداني والسياسي والدبلوماسي، وكذلك الأمن والمجتمع والاقتصاد وأزمة السلطة وتجاوز «أوسلو» المقاومة في ظل فشل المقاومة وفشل المفاوضات، ووضعت خيارات وسيناريوهات كثيرة جداً ولكن بقيت كأنها أصوات صارخة في البرية، وبقينا في مربع الاتهام وإلقاء الكرة كل في ملعب الآخر، وبقيت إسرائيل تعبث كما تريد وبقي شعبنا يائساً مندهشاً من فشل الفصائل في تحقيق أي إنجاز.
لقد فشل النظام السياسي وفصائله جميعها في تحرير الوطن وفشلوا جميعا في حل أزمات المواطنين وأزمة البطالة والعمال وفشلوا في إجراء الانتخابات وأزمة اللاجئين الذين تبخروا في الشتات، وأصبح الفلسطيني طريداً في المنافي وأسيراً في الوطن، وأمام كل تلك المآسي المتزايدة بدا كأن السياسيين فقدوا كل الحواس ولم يعودوا قادرين حتى على قراءة ما يكتب عنهم أو كأنهم يعيشون في واقع غير الواقع الذي يصفع المواطن كل يوم.
وبعيدا عن الشعارات فقد قطعت إسرائيل شوطاً كبيراً في مشروعها ضدنا، فمنذ سنوات طويلة قبل وبعد أوسلو تمثل ذلك المشروع بفصل غزة وقضم الضفة وقد تمكنت من ذلك، فالمناطق الفلسطينية في الضفة أشبه بالجزر المعزولة بين المستوطنات التي لم تتوقف عن الزحف، أما مشروع فصل غزة فقد قطع شوطاً ليظهر أنه في المراحل الأخيرة وما تبقى هو شكل الاتفاق على ذلك، فيما يتطوع وسطاء كثيرون عرب وأوروبيون وأتراك وغيرهم لإنجاز الأمر.
كل هذا يحدث ونحن ما زلنا نتناقش في نفس صالونات السياسة نفس الأفكار ونفس الأسئلة ونفس الحلول وبنفس الوجوه ...لم يتغير شيء سوى الزمن الذي أصبح لا قيمة له في وطن قطعته كل سيوف الوقت والخلاف والحوار المترف كأن الناس تعيش في كوكب آخر أو أن معاناتها وآلامها خلف ظهور الجميع ولا حل في الأفق لأي من القضايا ولا حلول وسط بيننا، وكأن تجربتنا أعلنت الفشل في التعايش قبل أن يكون لنا دولة، فكيف الأمر إن حدث الاستقلال؟ هل سنذبح بعضنا مثل ما يحدث في الإقليم؟ تجربة الربيع العربي مخيفة والعودة بالذاكرة لأحداث 2007 في غزة مخيفة أكثر.
اعتدت على زيارة النائب جميل المجدلاوي في بيته مساء بعيدا عن ضغط العمل، وفي ذروة النقاش الأخير الأسبوع الماضي حين وصلنا للبحث عن حلول للمعبر المغلق قطع حديثنا ابنه الواعد محمد قائلا: في كل مرة تكررون نفس المواضيع ونفس الحديث وأزمة المعبر دائما حاضرة ونفس الاقتراحات، أبو صبحة «يقصد مدير معبر رفح « يكون في الواجهة أم في الظل، داخل المعبر وخارجه، خلف ستارة أم خلف حجاب، أنتم تقفون عند نقطة الصفر أليس هو تعبير صارخ عن المأساة التي يمر بها شعبنا منذ سنوات لم تحل قضية واحدة أشبعت بحثا ونقاشا حد التخمة.
هذا صحيح، لم ننتبه أن كل شيء مكرر حد الملل، فقد مل الناس السياسيين وملوا الكتاب والصحافيين والمحللين والفصائل والمستقلين، ونحن مللنا الكتابة في نفس المواضيع لسنوات ولم نعد نقدم الجديد، والناس ملت القراءة ونشرات الأخبار ووعود السياسيين، فقد طارت كثيرا مع أحلام نثرها بعضهم ثم انكسرت لكثرة ارتطامها بعد التحليق، وسال دمها مرات عديدة، مرةً من ذوي القربى ومرة من الأعداء، والذي يزيد المشهد سواداً أن لا حلول في الأفق.
إسرائيل ليست قوية بل نحن الضعفاء وجزءٌ من أمة هزيلة مقارنة مثلا بتركيا أو بإيران، إسرائيل ليست دولة ناجحة بل نحن مجموعات من الفشلة .. ليست دولة ذكية بل نحن عاجزون عن استخدام عقولنا وإمكانياتنا، فهي في وسط بحر من الجهلة الذين يقتلون أنفسهم يتناحرون بالسلاح وحواراتهم كاذبة ومؤسساتهم وهمية وأجهزتهم تتبع أحزاباً لا أوطاناً، نحن نموذج مصغر من الحالة العربية وربما النموذج الأسوأ، لأننا اقتتلنا قبل التحرير وفشلنا في الاتفاق على برنامج العمل ضد المحتل، فهل سننجح في طرده؟
لا السلطة في الضفة قادرة على وقف الاستيطان، ولا « حماس » المسيطرة على غزة قادرة على وقف مشروع الفصل، بل بالعكس قد حاصرها الإسرائيلي من كل النواحي في عملية ترويض مدهشة لما سيأتي واستخدم ضدها العصا، وما أن نضج المشروع حتى بدأ بإظهار الجزرة .. وهي جزرة مسمومة إذا ما قبلت سيتحول الانقسام إلى انفصال نهائي كما يريد ويخطط منذ الثمانينات، وأمام حالة الانهيار ما زال ترف النقاش والحوارات والندوات يعيد أسئلة معلقة على الطاولة منذ سنوات ويعاد الحديث فيها كأن الزمن قد توقف، فلم يعد هناك متسع للسماع حتى.
لكن جذوة الأمل تبقى قائمة حتى حين يبلغ الإحباط ذروته، الأمل باستيلاد قوة من هذا الشعب قادرة على إعادة العربة التي خرجت عن الطريق لمسارها، قوة قادرة على أن تضع حداً لحالة العبث الطويلة التي يبدو أنها استسلمت للمشروع الإسرائيلي دون حراك، فحين يصاب الجسد بالمرض تنهار كل مصداته الدفاعية ولا يقوى على المقاومة، نظامنا السياسي بفصائله أصيب بالوهن وهو بحاجة إلى تجديد ...بث روح جديدة وأحزاب جديدة، فإسرائيل تعمل ليل نهار تسابق الزمن ونحن في غفلة من الزمن لا زلنا نقف حيث البدايات نسأل نفس الأسئلة ببلاهة شديدة ونقدم نفس الإجابات، كأننا نصدق أننا نفعل شيئاً فيما التآكل في اللحم الحي وصل العظم، آن الأوان لرجة عنيفة لإحداث إفاقة لحالة الموات التي نعيشها ..!
Atallah.aktam@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية