عيني على وطني - ميس حمدان

ميس حمدان

كان حلما فخاطرا فاحتمالا ثم أضحى حقيقة لا خيالا. لطالما حلقت بنا معلمة التربية الوطنية ونحن صغار في سماء وطن زرناه بمخيلتنا وعقولنا الصغيرة التي حفظت أن أريحا تشتهر بالموز والنخيل وأن المسجد الأقصى يصافح كنيسة المهد في ربوع وطن غال، وظلت قلوبنا وعقولنا تتمنى لو تصل إلى هناك لتحمل رسائل الحب والشوق من هنا لهناك.

من كان يصدق أنني في يوم سأعيش هذه التجربة واقعًا وحقيقة، وأنه في يومٍ ما يمكنني تحقيق هذا الحلم الذي كان شبه مستحيل، خصوصا في هذه السنة بعد العدوان الأخير على قطاع غزة .

أشعر بالفخر والثقة والسعادة لأنه تم اختياري من بين الكثير من طلاب غزة في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، لخوض هذه التجربة.

يوم الخميس ٥ - ٨ – ٢٠٢١، دخلنا حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة وكانت نظراتنا المليئة بحزنٍ مخلوط بدهشة وفرح تذهب إلى هنا وهناك إلى تلك الأراضي التي سُلِبت من أجدادنا والتي هي ملكنا وهي حقنا، لنا ولأجدادنا.

وأول ما فعلناه هو الصعود على جبل الطور الذي يبعد ميلين عن شمال القدس كي نرى المسجد الأقصى وقبة الصخرة الذي حُرِمنا من الصلاة فيه أو حتى دخوله، وبالرغم من أننا رأيناه من بعيد إلا أننا استمتعنا برؤيته بغير الصور، وكان شعورًا لا يوصف بأي كلمة .

وبالحديث عن القرى القديمة في بيت لحم ذهبنا إلى قرية "بتير" أو بيت الطير، ذات التاريخ المميز والعظيم، إنها جنة بين مخالب الوحش ففيها يوجد متحف يعرض القطع الثمينة التي تبين حضارة بتير ويعرض فيلم وثائقي لتاريخها وجمالها.

ثم نزولاً إلى أشهر حارة في هذه القرية وهي حارة السبع أرامل التي كانت تعيش فيها سبع نساء مات أزواجهن في سبع حوادث مختلفة والتي ارتبط اسمها بأصالة المرأة البتيرية الصابرة المثابرة، كما تمر من القرية، أول سكة قطار في فلسطين والوطن العربي أنشأها العثمانيون عام ١٨٩٠م، وما تزال تعمل حتى الآن ولكن للأسف تحت سيطرة الاحتلال الصهيوني وتصل بين يافا والقدس.

وبعد أن أنهكنا التعب في صعود الجبل مرة أخرى نسينا كل شيء عند رؤية البركة الرومانية التي يحتضنها هذا الجبل والتي تبعد بضع أمتار عن نبع ماء من بين سبع ينابيع توجد في بيت الطير، والتي تذوقنا برودتها وحلاوتها من بعد عطشٍ شديدٍ ومتعب ولكن لا يوجد من أحلى وأجمل هذا التعب، تعبٌ فيه راحة للنفس.

عند هذه النبع كانت هناك عجوزٌ وابنتها تبيعان سلاسل خشب مكتوب عليها عبارات قصيرة، ولأننا من غزة أهدتنا لكل منا واحدة ، يا إلهي ما زالت نظرات تلك المرأة المليئة بالحنان والحب في مخيلتي، دمعتاها اللتان كانتا على طرف جفنيها أشعرتني بقشعريرة ... يا لها من عجوزٍ صابرة.

وبعد كل ما رأيناه في بتير من جمال توجهنا إلى محل هدايا، لكن ليس أي هدايا إنها قطع فنية ومجسمات رائعة من التراث، أعجبتني قطعة من الفخار فوقها زجاج مثل بلورة وهي عبارة عن مجسم للمسجد الأقصى وقبة الصخرة. وبالرغم من أنه يوجد مثلها الكثير في غزة وبسعرٍ أرخص ربما؛ إلا أنني اشتريتها لأنه شعور جميل أن تبقى عندك قطعة مثل هذه من بيت لحم من مدينة من وطنك، فتبقى تتذكر تلك الأيام الجميلة التي اشتريتها فيها .

بعد أن استرحنا قليلاً عدنا لنُمتع أنظارنا بكنيسة المهد والكل يعرف أنها مهد النبي عيسى عليه السلام، وللأسف كانت مغلقة بسبب فيروس كورونا .

ومن جمال ما رأيناه كدت أنسى برك سليمان الجميلة، وهي ثلاث برك ماء، أنشأها السلطان العثماني سليمان القانوني في قرية أرطاس جنوب مدينة بيت لحم التي جاء دورها في الزيارة بعد كنيسة المهد.

وفي اليوم التالي بقدر كل ما رأيناه من جو جميل في بيت لحم بقدر الحر الذي عانينا منه في أريحا لذا ذهبنا إلى مدينة مائية هناك حتى لا نشعر بالحر الشديد.

وقبل ذلك في طريقنا إلى أريحا مررنا بوادي النار الذي تبدأ أذناك فيه بالإغلاق، كان هذا شعور رائع لأنك لم تسمع عن هذه الظاهرة إلا في كتب العلوم والآن تجربها بنفسك. وأكملنا المسير إلى مقام النبي موسى عليه السلام الذي يعود تاريخه إلى عهد صلاح الدين الأيوبي، وليس له علاقة بالنبي موسى الذي لا يعرف له قبر وفقدت آثاره على جبل نبو في الأردن، وفقاً للعهد القديم.

وهناك التقينا بحارس المقام، فأعطانا بعض المعلومات القيمة عن المقام، وعن موسم النبي موسى وهو جزء من تراث مدينة القدس الديني والشعبي، يحتفل به الفلسطينيون منذ ما يقارب التسعة قرون، والذي يعتبر مع مواسم أخرى مثل مواسم النبي صالح قرب رام الله ، وموسم المنطار في غزة، وموسم النبي روبين قرب يافا، من المواسم التي استحدثت زمن صلاح الدين الأيوبي في نفس الفترة التي تقام فيها أعياد الفصح المجيد، حيث كانت وفود المناطق الفلسطينية في السابق، تصل إلى القدس قبل أيام من بدء الموسم، وتتجمع في البلدة القديمة وتخرج منها في احتفالات رسمية وشعبية كبيرة ترفع البيارق.

وأكملنا إلى قصر هشام، القصر الذي شيده الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك سنة 724 –743 م والوليد بن يزيد743 – 744 وكان يعتبر مقرا للدولة.

بعد المدينة المائية التي تحدثت عنها سابقاً ذهبنا إلى تلفريك أريحا وكان الصعود عليه من أجمل الأشياء التي فعلتها هناك رغم أنه كان هناك خوف قليل لأنه مرتفع والتلفريك أوصلنا إلى جبل التجربة أو جبل قرنطل الذي يوجد فيه كنيسة جبل التجربة واحدة من الآثار المسيحية الخالدة في فلسطين التي يحج إليها آلاف الحجاج المسيحين من كل دول العالم، تقليداً للسيد المسيح والسير على خطاه، ففي الكهف الواقع في داخل مبنى الكنيسة، قال السيد المسيح مقولته الشهيرة "ليس بالخبز وحده، يحيا الإنسان".

وأنهينا يومنا بالذهاب إلى كلية الطيرة في رام الله (كلية مجتمع المرأة ) التي يأتي إليها الفتيات للتعلم والسكن فيها مدة التعليم، كانت محطتنا قبل الأخيرة، وهناك التقينا بطالبات وطلاب الضفة الغربية واختلطنا وتعارفنا وكنا في نفس الغرفة حيث كان هناك عدة غرف في كل غرفة أربع فتيات من غزة وأربعة من أماكن مختلفة من الضفة الغربية فهناك فتيات من الخليل ومن أريحا ومن بيت لحم وكان هذا أجمل ما في المخيم أننا تعرفنا على طلاب الضفة.

هناك كان يجمعنا الاحترام والمحبة وكان ينتظرنا الكثير من اللعب والاستمتاع والنشاطات حيث قضينا ثلاثة أيام في هذه الكلية، كنا نقضي يومنا نذهب إلى عدة زوايا مختلفة منها: زاوية الأشغال الفنية التي صنعنا فيها أشياء مختلفة للزينة، وزاوية التراث الفلسطيني حيث كنا نتعلم التطريز وكنا نغني الأغاني الشعبية فيها، وزاوية الحاسوب، وزاوية الروبوت التي لم أرَ مثلها من قبل في غزة والتي حاولنا فيها صنع روبوت وبرمجته على اللعب.

وأيضاً زاوية المسرح والتي كانت المفضلة لدي لأننا تعلمنا فيها أشياء عن المسرح والمسرحيات وكان المشرف عنها يقدم لنا أمسية رائعة كل ليلة .

ثم أنهينا رحلتنا بذهابنا إلى وادي الباذان، منطقة طبيعية خلابة تقع على بعد 5 كم إلى الشمال الشرقي من مدينة نابلس على الطريق المؤدية إلى غور الأردن، وتتميز المنطقة بكثرة ينابيعها وتنوع الحياة البرية فيها. وتعد من أجمل المناطق الطبيعية في فلسطين وأقيمت فيها محمية طبيعية للحفاظ على الحياة البرية، كما توجد فيها أنواع كثيرة من الطيور المقيمة والمهاجرة مثل نقار الخشب السوري وصياد السمك والصقر والحسون وغيرها، ومن بعدها أكملنا طريقنا إلى منتجع الواحة.

في الباذان كان هناك منظر خلاب ورائع وكان هناك الكثير من الألعاب المختلفة فاستمتعنا بوقتنا كثيراً ثم عدنا إلى رام الله كي نحضر أنفسنا للرحيل.

في صباح اليوم التالي، حاولنا عدم البكاء لكننا لم نستطع لأننا في هذا الأسبوع كنا كعائلة واحدة متكاملة، لقد كانت هذه رحلة العمر بالنسبة لي وبإذن الله لن تكون الأخيرة لأنني لا أظن أننا نحن الجيل الصاعد، سننسى.

هذه المادة مخرج تدريبي لنادي الإعلام بمركز رُسل لرعاية الموهبة

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد