من أكل يوسف؟ - ضحى طه

ضحى طه

خرجت من خيمتي في المخيم الذي أقامته جمعية حماية البيئة، التي أنتسب إليها، لأتجول قليلا في الغابة، ولأستلهم فكرة لتقريري، ثم، رأيته! كان رماديا ضخما بعض الشيء، وفي عينيه نظرة تفلق الحجر، وقد لمحت فيها شيء من الحزن، ولكني وبطبيعة الحال، خفت كأي إنسان يرى ذئبا، وبدأت أتذكر ما تعلمته من كيفية مواجهة المفترسات، فطن لذلك، وقال:" مع أنكَ الأذكى بين أفراد مجموعتك، إلا أن رد فعلك لم يكن كما كنت أتوقع!"

ذئبٌ يتكلم! عقدت المفاجأة لساني.

-تتعجب إذن لكوني أتكلم، وأنا أتعجب أكثر مما تفعلونه أيها البشر!

-وما الذي .. لكني خجلت من جرأتي ولم أكمل، فعلنا -وما زلنا- نحن بنو البشر جميع أنواع الشرور!

-دعني أتكلم، منذ أن خلق الله سيدنا آدم وسيدتنا حواء، وولد قابيل وهابيل، كان كل شيء مسالما و منسجما، إلى أن قتل قابيل هابيل، وسجلت أول جريمة قتل في تاريخ البشرية، وما السبب؟ تافه! بسبب الغيرة والحقد فقط، عصى قابيل، أراد أن يتزوج أخته التي ليست من حقه، لأنها الأجمل! ها! وما بها الأخرى؟ أرأيت! التمييز والعنصرية والمشاكل التافهة قديمة قدم التاريخ!

ثم مرت قرون، وولد سيدنا يوسف عليه السلام، وغار إخوته من حسن خَلْقِه وخُلُقِه، و كذبوا على أبيهم ليجروه إلى فخهم، ورموا يوسف في البئر، واتهموني أنا الذئب ظلما وعدوانا بقتل نبي الله! و كذبوا على أبيهم ثانية وبدموع كدموع التماسيح. لا والله لست من أكل سيدنا يوسف، هم من أكلوه!

وقرون أخرى بعد، في عهد فرعون الطاغية، الذي ادعى أنه الله، وأمر قومه بعبادته، لم يعارضه أحد علنًا، لأنهم جاهلون، وتبعيون، وصدق الله حين قال:" فاستخف قومه فأطاعوه"، واستمر في غيه، وعندما حلم أنه سيولد طفل ينهي أمره، قتل كل الأطفال خوفا على عرشه، ثم خفف أمره بأن يتم قتل المواليد سنة بعد سنة، ليس رأفة بهم، بل لأنه لاحظ أن عدد العبيد الذي يستخدمهم قل لأنه لم يعد هناك عدد كاف من الأيدي العاملة، بقتله الدوري للمواليد، ولكن الله أراد أن ينجي الطفل -سيدنا موسى- وينفذ أمره رغم كل ما قام به فرعون. وقصة أصحاب الأخدود، الذي أحرقهم ملكهم الظالم لأنهم آمنوا بربهم، وكثير من القصص الأخرى.

وقبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي جزيرة العرب، كانت الحروب تقام بين القبائل لأتفه الأسباب، فحرب البسوس، التي نشبت بين قبيلتي بكر وتغلب، كانت بسبب ناقة قتلت، واستمرت أربعين عاما، وحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، قامت بسبب خلاف على سباق تم بين فرسين، الفرسان هما داحس والغبراء نفسهما، كذلك حرب الفجار التي كانت بين قريش وكنانة من جهة، وقيس عيلان من جهة أخرى، وسميت بالفجار لما استحل فيه هذان الحيان من المحارم في الأشهر الحرم ولما قطعوا فيه من الصلات والأرحام بينهم، ولولا الإسلام لربما استمرت هذه الحروب لزمن طويل.

وبعد عصر الخلافة الإسلامية، عندما ظهر المغول والبيزنطيون، وعاث المغول في الأرض فسادا، وقتلوا الكثير من أمراء المدن الإسلامية الذين لم يكونوا جديرين بالإمارة، وأقاموا مجازرا في البلاد الإسلامية، كما فعلوا في بغداد، حيث قتلوا الخليفة، وذبحوا مليون مسلم في أربعين يوماً، وأحرقوا المكتبات، ورموا الكتب في الماء، إلى أن انتهوا على يد المظفر سيف الدين قطز في معركة عين جالوت.

ثم شن البيزنطيون حملات عسكرية على فلسطين، ويرجح المؤرخون إلى أن المذبحة التي قام البيزنطيون بها في القدس استمرت ١٠ أيام، راح ضحيتها ١٠٠ ألف مقدسي، ومثلوا بالجثث وحولوا الأقصى إلى إسطبل للخيول.

ودعني أذكر لك ما أنتجته الحرب العالمية الأولى، إذ قتل أكثر من ٩ ملايين مقاتل وسبعة ملايين مدني، كما تسببت في نشر الإنفلونزا الإسبانية التي تسببت في موت ما بين ٥٠ و ١٠٠ مليون حالة في جميع أنحاء العالم، وهذا جزء من النتائج، وقد وصفت في وقتها بأنها الحرب التي ستنهي كل الحروب، ولكن، هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا حروب؟ صعب بل شبه مستحيل! قامت الحرب العالمية الثانية، وتعد الحرب الأوسع في التاريخ، وشارك فيها أكثر من ١٠٠ مليون شخص من أكثر من ٣٠ دولة، وألقيت قنبلتان ذريتان على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، قتل ١٤٠ ألف شخص في هيروشيما و ٨٠ ألف شخص في ناجازاكي، وأودت بحياة ٥٠ إلى ٨٠ مليون قتيل وفق التقديرات، وبناء على ذلك، فإن الحرب العالمية الثانية، أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية.

صمت الذئب قليلا، واسترجع عقلي بعض الذكريات، قرأت في صغري رواية أورار لنبيل فاروق، رواية خيال علمي، تتمحور حول فكرة أن الإنسان لم يتطور إلا بالآلات، أما وحشيته فما زالت جزءا لا يتجزأ منه، حيث تدور أحداث الرواية -في زمن المستقبل_ حول أن أشخاصا من كوكب آخر أرادوا أن يتواصلوا مع الأرض ليقيموا صداقة، خطفوا شخصا كي يوصلوا رسالة أنهم يريدون السلام، لكنهم اكتشفوا، عندما عاد، أنهم لم يزرعوا الكلمة بلغتنا، بل بلغتهم، وهي (أورار)، أي ننشد السلام، لكن أحدا لم يفهم معنى هذه الكلمة، وظنوا أنها تعني إعلان الحرب، وجمعوا جيشا عالميا ليواجه خطر الغزو الواهم، لكن الفضائيين أخذوا شخصا ذكيا و أوضحوا له أنهم كانوا يقصدون (ننشد السلام)، لكن ولأن البشر وحشيون وعدوانيون فهموها (ننشد الحرب) ! وازددت إيمانا بمنطق هذا الذئب، نحن لم نتطور أبدا، إنما تطورت وحشيتنا واخترعنا أسلحة دمار شامل!

ثم تابع الذئب، وكأنه يؤيد ما فكرت به توا :

أنتم، أيها البشر، تنفقون على الدمار أكثر مما تنفقون على الإعمار، فمثلا تحتل الولايات المتحدة المركز الأول عالميا في الإنفاق العسكري حيث بلغ 532,800,000,000 دولارا، تتلوها الصين بحوالي 220,500,000,000 دولار وفق التقديرات، والمملكة العربية السعودية احتلت المرتبة الرابعة بعد روسيا مباشرة وقبل بريطانيا وألمانيا فقد بلغ إنفاقها 75,255,000,000 دولارا، حيث أن السعودية تعتقد أن هناك خطرا محدقا بها من قبل إيران.

لو أن هذه الدول تنشغل بإنهاء المجاعات والفقر والأمراض والتلوث، لعم السلام والخير هذه الأرض، لو تنفق هذه المليارات على الدول الفقيرة، لما عاد هناك فقير البتة، لو تنفقه على الأذكياء الذين لا يملكون مالا ليطوروا مواهبهم وينفقونه على اكتشاف المواهب لتطورنا بسرعة كبيرة، لكن المشكلة أن المسؤولين لا يفكرون إلا بأنفسهم، أنانيون، يقيمون الحرب لينشروا السلام المزعوم، إنهم يعتنقون مبدأ إبادة البشر من أجل سلامة البشر!

اسمع أيها البشري، جئت وأصدقاؤك إلى هنا لحماية البيئة وإعمار الأرض أليس كذلك؟ قل لهم أنه لن يحل السلام إلا عندما يكفون عن القتل، وعن الانتقام، وعن الحقد، وعن كل الشرور، ولن يحل السلام إلا باختفاء الأسلحة، ومعدات الدمار الشامل، عندما يفكر الرؤساء كيف أعتني بشعبي عوضا عن كيف أعتني بكرسي الرئاسة ولو ضحيت بكل البشر، سيحل السلام.

تركني الذئب ومضى، وأنا أعجب من منطق هذا الذئب، وفكرت في أنه من الأفضل أن نكون دكتاتوريين ضد رغباتنا وهوانا فقط، لأنه سيمنعنا من الخير إذا ما استشرناه، وفكرت في أنه لو لم نتوقف عن الحلم، لقضينا على الشر في هذا العالم.

هذه المادة مخرج تدريبي لنادي الإعلام بمركز رُسل لرعاية الموهبة

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد