استكمالاً للنقاش في المقال السابق حول علاقة العسكر بالحكم وتداوله، فإن الأساس في المنطقة العربية هو غياب الناظم الحاكم لعلاقة مكونات الدولة فيما بينها. فبعد قرابة قرن من بداية عهد تفكك الاستعمار، ظل الكثير من الدول العربية في حالة شبه جنينية لم ترتق لمستوى الدولة الحديثة بالمعني السائد، كما لم تتحول إلى دولة مواطنيها؛ إذ ظلت حتى اللحظة دولة حاكميها، وبدلاً من أن تصبح دولة المواطن ظل المواطن تابعاً للدولة. وكان سر ذلك مجموعة من الأسباب في جوهرها غياب العلاقة السليمة بين المواطن والدولة، وبكلمة أخرى غياب العقد الاجتماعي الحقيقي الذي هو جوهر أي علاقة بين الأفراد، وبينهم وبين الدولة. هذا الغياب هو ما يجعل الدولة شكلاً لا جوهراً.


والسبب الذي لا يقل أهمية هو التدخل المستمر للرجل على الحصان، أي العسكر، في شؤون الدولة. فبدلاً من أن يصبح الجيش حامياً للدولة ومصدراً لقوتها ومناعتها، فإن تدخلاته المتكررة في الحكم تضعف الدولة وتقوّض دعائمها. إن أي تدخل غير منضبط وفق القانون ولا ينص عليه الدستور يعتبر إضعافاً للدولة. في الحالة العربية فإن الجنرالات في حقبة ما بعد الاستعمار ظلوا يتوارثون الهيمنة على الدولة وعلى مواطنيها مستخدمين النفوذ، وحين يتعرض هذا النفوذ لأي مساس يبادرون إلى الانقلاب على الحكم من أجل ضمان الحكم. بهذه الطريقة فإن الدولة ظلت مثل العشب تدوسه حوافر خيل العسكر.


هل ثمة تعارض بين العسكر والديمقراطية؟ المؤكد والطبيعي أن تكون الإجابة لا، فالديمقراطية تحقق الخير العام لكل أفراد المجتمع، وتحمي مؤسسات الدولة من تغول بعضها على البعض الآخر. الذي يحدث أن عدم فهم الأدوار في أي مجتمع يخلق الفجوات في فهم السياقات الطبيعية. والحالة العربية أثمرت عن حالة عدم استقرار جعلت الطبيعي شيئاً غير طبيعي. من المحزن أنه لا يمكن تصنيف دولة عربية ضمن الدول الديمقراطية الأساسية ولا الثانوية في العالم. هذا شيء يجب أن يثير حفيظة حتى أسلافنا في قبورهم، فالعرب الذي عرفوا المدنية والتقدم منذ الحضارات البشرية الأولى عاجزون عن بناء دولة حديثة.


وفي ظل غياب القوانين التي تنظم علاقات الأفراد والمؤسسات ومكونات الدولة المختلفة، فإن الانقلاب يظل وارداً، وكل من يستطيع أن يصنع المشاكل سيظل قادراً على إثارة الرعب في نفوس الآخرين.


ليس المهم أيضاً وجود الدستور، والقوانين ليس مهمة بحد ذاتها، بل المهم هو نفاذها. فوجود الدستور كصياغات لغوية وفقرات تشريعية لا يضمن أن ثمة احتكاماً حقيقياً له. إذاً ما الذي يجعل هذا الاحتكام واجباً؟ من المؤكد أن ثمة حاجة لوجود قوة إلزام تجعل احترام القانون وتسييد الدستور بوصفه الناظم للعقد الاجتماعي بين مكونات الدولة ومواطنيها أمراً حتمياً، ولا يمكن تخيل أن ثمة قبولاً كاملاً بكل شيء.

وعليه ففي ظل غياب مثل هذا الإلزام والإكراه، فإن نفاذ القانون وقوة الدستور ستصبح بلا قيمة. الكلمة المفتاح في كل ذلك هي «الإكراه»، بمعني أن تقبل القانون والعقد الاجتماعي لا يعني بالضرورة رضا جميع الناس. فالبعض بالضرورة أيضاً ستتعارض مصالحه مع الخير العام وسيعمل جاهداً لإجهاض هذا الخير من أجل الدفاع عن مواقعه. هذا أمر طبيعي. وكما في أشياء كثيرة في الحياة، فإن أسباباً كثيرة تتطلب استخدام القوة من أجل الخير العام ومن أجل المصلحة العليا. هكذا يكون وجوب وجود قوة ضامنة لنفاذ الدستور والتزام كل فرد وكل مؤسسة في الدولة به أمراً محتوماً لا مناص منه.


أيضاً هذا لا يكفي، فثمة حاجة لوجود قناعات مشتركة بين مجتمع المواطنين والعاملين في مؤسسات الدولة بوجوب احترام الدستور والقانون. يبدو هذا أكثر صعوبة في المجتمعات حديثة العهد بالتداول السلمي للسلطات، فالأفراد الذين لم ينشؤوا في سياقات ديمقراطية سيجدون صعوبة في تقبل الكثير من متطلبات الحياة السياسية المستقرة. وعدم الاستقرار لا يقود إلا لمزيد من عدم الاستقرار. وفي التكوينات السياسية حديثة النشوء، فإن النخب التي خرجت لتوها من أتون الصراع في وجه المحتل، وفي وجه بعضها بعضاً، ستجد صعوبة أكبر في تقبل حالة الاستقرار التي ستعني مثلاً أن يظل الحصان في الإسطبل ولا يركبه الفارس إلا عند المصلحة العامة، ولا يتم جلب رسن الحصان إلى داخل البرلمان.


إذاً الثقافة الديمقراطية والسياسية أساس في حالة الاستقرار. وما ينطبق على الفرد ينطبق على المؤسسة، فالدولة مجموعة مؤسسات تتصرف وفق علاقات متشابكة ومتداخلة. وطالما لم تتوفر في تلك المؤسسات ثقافة ديمقراطية تجعل كل منها تحترم الدستور والقانون، فإنه سرعان ما ستقوم مؤسسة بتجاوز حدود السلطات الممنوحة لها وفق الدستور. وفي هذه الحالة، فإن المؤسسة العسكرية هي الأقدر على تدمير الدولة بحجة حمايتها. وعليه فإن جوهر الدولة الحديثة هو سيادة القانون والفصل بين السلطات، فدون هذا الفصل لا يمكن أن تتحقق للدستور سيادته ولا للقانون علياؤه. الدول الضعيفة تعاني بشدة من هذا التداخل ومن عدم احترام القوانين والدساتير. مرة أخرى فإن الدستور ليس مهماً ما لم يكن محمياً، وما لم تكن هناك ترتيبات في الدولة تضمن عدم المساس به وتُلزم الجميع بذلك.


إن بناء الدولة الحديثة يتطلب فهماً حقيقياً من كل مكونات الدولة لدورها. ويتطلب ضمانات أن لا يتغوّل أي طرف على آخر ولا يقوم بالاعتداء والانتقام. إن الجوهر الأساس هو أن يشعر الأفراد بوجود الدولة ويؤمنوا أنها تستطيع أن تحميهم، وأن تردع أي محاولة للمساس بهم. دائماً ثمة جريمة، ولكن حين تمر الجريمة بلا عقاب تصبح الجريمة فعلاً معتاداً، وهذا سر الخطورة. في الحالة العربية، فإن الانقلابات الخشنة أو الناعمة باتت صفة أساسية في الدولة العربية، كما بات المواطن الغائب عن تفاصيل الحكم هو المواطن الصالح.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد