أعادت مأساة غرق السفينة، التي كانت تحمل عددًا من الشباب المهاجرين من قطاع غزة قبل أيام، والإعلان عن وفاة عددٍ منهم وفقدان آخرين، مجددًا ضرورة البحث في الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتآكل حد الانهيار، والناجم عن الحصار الاسرائيلي الممتد منذ أكثر من عشرين عامًا، وعن ما ولّده الانقسام من إطباقٍ كامل لهذا الحصار على مختلف مناحي حياة الناس داخل القطاع، بتواطؤ كافة الأطراف ذات الصلة التي حولت أحوال القطاع لجرحٍ دامٍ مفتوح، والمواطن الفلسطيني فيه لِضحية يبتلعها الموت والإحباط وضياع الأمل يوميًا.
لقد شنّت اسرائيل خلال سنوات الانقسام الماضية أربعة حروب دامية ضد القطاع، بهدف كسر شوكة أو تحطيم أو احتواء القدرات العسكرية لقوى المقاومة، وفي كل جولة من هذه الحروب التي أغرقت غزة بالدم والدمار، كانت حركة حماس تخرج معلنة النصر، رغم التدمير الواسع النطاق للبنى التحتية، بما يشمل شبكات الطرق والمياه والكهرباء المتهالكة أصلًا، بالإضافة إلى تشريد آلاف العائلات التي دُمرَت بيوتها، مما يزيد من عوامل الفقر والمآسي الاجتماعية التي وصلت حدًا غير مسبوق من الآفات الاجتماعية التي تمسّ المجتمع بما في ذلك في أوساط النساء والشباب. ومع إعلانات النصر تلك، وغياب أو ضعف دور السلطة في ترميم جراح الناس؛ تراجعت فرص التوصل لحلول وسط تضع ولو مدخلًا لإنهاء حالة الانقسام وإعادة بصيص أمل لأهل القطاع، سيّما قطاع الشباب الواسع والذي يعاني من الإفقار والبطالة والإحباط المركّب المتزايد.
هذه ليست الحادثة الأولى التي يكون فيها شباب القطاع الباحثين عن فرصة حياة في بلدان غرب المتوسط ضحايا غرق وابتلاع البحر لحياتهم، وربما لآمال عشرات الآلاف منهم، وهم يحاولون الخلاص من بين أنياب فكيّ كمّاشة الحصار وعتمة الانقسام، وربما لن تكون الأخيرة إذا ما استمر هذا الواقع على ما يبدو عليه.
هل ما زال من الممكن استعادة الأمل في قلوب الشباب؟
حتى الآن فشلت كافة أطراف الحركة الوطنية، وفي مقدمتهم صُنّاع مأساة القطاع والأزمة الوطنية الشاملة، الذين قدّموا لاسرائيل غطاءً مجانيًا على جريمة حصارها البشع، لدرجةٍ أظهرت حكومة الاحتلال في بعض الأحيان، وكأنها الجهة التي "تسعى لتخفيف مأساته، من خلال سلسلة الأفخاخ التي كانت تطرحها وآخرها خطة (لبيد) التي ترتكز على وهم تحسين الأوضاع الاقتصادية في إطار هدنة شاملة تُعزّز واقعيًا من حالة الانقسام، وربما تُحوله لانفصالٍ دائم. يترافق ذلك مع ما عرف بالإجراءات والعقوبات المالية والإدارية بحق موظفي القطاع العام، والتي للأسف أظهرت السلطة وكأنها الطرف الثاني من كماشة الحصار، وليس مجرد السلطة التي تنسحب من مسؤولياتها العامة لأهل القطاع تحت ذريعة "إما أن يعود القطاع لحظيرتها كالخاتم في أصبع السلطة أو فلتتحمل حماس المسؤولية عن كل احتياجات أهل القطاع"، كوسيلة ثبت فشلها للضغط على حماس، أو دفع أهل القطاع للخروج عليها، إن لم يكن فعليًا تركها لمصير المخططات الاسرائيلية التي تسعى لكسر إرادة وتيئيس أهلها دون أي تمييز، والذين كانوا دومًا الرافعة والحاضنة للوطنية الفلسطينية ومشروعها الوطني التحرري.
الحديث الجاري عن صفقة شاملة بين حماس واسرائيل تشمل الأسرى وهدنة طويلة الأمد وإجراءات اقتصادية تبدو أنها النتيجة التي سعت إليها اسرائيل لطيّ وحدة الكيانية الوطنية ومعها الحقوق الفلسطينية على مدار حروب عديدة وسنوات حصار طويلة، وفي ظلّ تقديم حماس كالمُخلّص والمنقذ من حالة الانهيار والإحباط، فلن يجرؤ أيًا كان على انتقاد تحرير أسرى أو "رفع أو حتى مجرد تخفيف الحصار" حتى لو كان الثمن ما يعرف بهدنة طويلة الأمد، تتلاقى مع حالة ضعف حد الانهيار لواقع حال السلطة الفلسطينية وعجزها عن معالجة الملفات الداخلية المتراكمة، أو التصدي للنهب غير المسبوق للأرض والموارد والتمزيق الممنهج للحقوق الفلسطينية ولمكانة القضية الوطنية.
أمام هذه التحديات التي تتمادى فيها اسرائيل بتفكيك عناصر القضية الفلسطينية والنسيج الاجتماعي الذي طالما شكّل الحصن المنيع في مواجهة الاحتلال ومخططاته، تسعى القوى المهيمنة على المجتمع الفلسطيني لإحكام سيطرتها على حساب مصالح المجتمع وقواه الاجتماعية الحية الناهضة؛ يبقى الأمل الوحيد لمواجهة ناجعة، حتى لو كانت طويلة الأمد لهذه التحديات، بأن تنتقل الحراكات الشبابية تحديدًا من مجرد حالة الرفض لهذا الواقع إلى المبادرة الفورية لإطلاق هيئة تنسيق أو هيئة تحضيرية فيما بينها ودون استثناء كل من يرغب بالانضمام إليها، لتؤسس معًا لخطة عمل ملموسة وفق أولويات محددة تتقدم فيها نحو بناء حركة شبابية عريضة ومنظمة تحترم التعددية لتوجهات أطرافها، ولتشكل بذلك العمود الفقري لمتطلبات إعادة بناء حركة وطنية جديدة تعيد بناء المشروع الوطني والاجتماعي التحرري الذي يعيد للقضية الفلسطينية مكانتها وللشعب وحدة أهدافه انطلاقًا من تمسكها بحق العودة وتقرير المصير، والنضال الوطني بوصلته الأساسية في مواجهة مخططات الاحتلال، والنضال الاجتماعي التقدمي دوره بالانتصار لقيم الحرية والعدالة والمساواة دون مساومات تحت أيّ ذريعة كانت.
قد يبدو هذا الكلام طوباويًا ويُحمّل الحركة الشبابية غير المتبلورة، بعد، ما هو فوق طاقتها، وما ليس لها قدرة على إنجازه، وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكن الأصح من هذا الكلام أنه إن لم تتقدم هذه المجموعات والحراكات الشبابية بمثل هذه المبادرة، ومعها مجموعات وحراكات نسوية ومجتمعية ونخب فكرية وثقافية شابة وبمساندة من الشخصيات الوطنية والتقدمية المستقلة، ليس فقط في القطاع والضفة، بل وفي مختلف تجمعات شعبنا الفلسطيني بما في ذلك داخل أراضي ال48 و بلدان الشتات للتصدي لهذه المهمة؛ فستنتظر سنوات طويلة أخرى تستمر فيها حالة الانهيار القائمة ويستمر معها وهم المراهنة التي يثبت يوميًا عدم صدقيتها؛ بأن من جلب الفشل وصنع الأزمة يمكن له أن يكون شريكًا أو مفتاحًا لِحلّها. فالخلاص من واقع موت الناس والخطر الداهم على قضيتهم ليس بركوب البحر وسفن الموت، بل بتحدّي هذا الواقع وصنّاعه وبدء العمل الجدّي لتغييره.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية