قامت مؤسسات حقوقية فلسطينية قبل بضعة أيام بعقد لقاء مع مؤسسات حقوقية إسرائيلية في مدينة رام الله ، من بينها "كسر الصمت" و "مقاتلون من أجل السلام" وتعرفان نفسيها على أنهما تضمان إسرائيليين خدموا سابقا في جيش الاحتلال الإسرائيلي. و في حدود علمي فإن المؤسسات الفلسطينية لم توضح فحوى اللقاء لأسباب تتعلق بتهمة التطبيع.

و لنأخذ منظمة "مقاتلون من أجل السلام" كمثال حيث تعرف نفسها على أنها ”مجموعة من الفلسطينيين والإسرائيليين الذين اتخذوا دوراً نشطاً في دائرة العنف في منطقتنا: جنود إسرائيليين، خدموا في الجيش الإسرائيلي، والفلسطينيين كمقاتلين ناضلوا من أجل تحرير وطنهم، فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي!” و يهدفون لإنهاء “الصراع” و “حلقة العنف” من “خلال العمل المشترك فقط”. ويوجهون الدعوة لكلا “البلدين (أي إسرائيل و فلسطين) للانضمام إليهم لتحقيق السلام والمصالحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.” و يحثون القيادة السياسية على اتخاذ “خطوات جريئة لبدء مفاوضات جادة لإنهاء الصراع.”

على الرغم من الاسم التسويقي الذي اختاره مؤسسو هذه المنظمة لأنفسهم ، فانه من المهم لأى شخص يرغب في الاشتراك في حوار جاد في فلسطين أن يكون واعياً بأن أبجديات ما يسمى “بالصراع” هو بالأحرى إضطهاد يمارسه الاحتلال و نظام الفصل العنصري الاسرائيلي على السكان الأصليين. و كجزء من إستراتيجية المقاومة السلمية الجدية التي تسعى للحرية و العدالة و المساواة، كانت مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني قد اصدرت نداءا دولياً عام 2005لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها حتى تنصاع للقانون الدولي وتحترم حقوق الإنسان الفلسطيني. في حين أن المنظمة المذكورة تدعو إلى “تشجيع الناس على الانضمام الى أنشطة إسرائيلية-فلسطينية مشتركه ضد الاحتلال والعنف” بدون تحديد المسئول عن هذا العنف, و كأن هناك طرفين متساويين في القوة و في الحق!

إن نداء مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها يتضمن المطالب الآتية: يجب على إسرائيل أن تنهى احتلال واستعمار الاراضى العربية، وان تزيل جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية و الذي اعتبر غير شرعي وفق قرار محكمة العدل الدولية الصادر عام 2004, و أن تعترف إسرائيل بالحقوق الأساسية للسكان العرب الفلسطينيين في إسرائيل، و ان تعاملهم بمساواة تامة، وان تطبق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينص صراحة على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم.

فهل تعترف المنظمات الإسرائيلية المشاركة في اللقاء المذكور بالظلم و الإرهاب المفروض على الشعب الفلسطيني؟ لا يوجد هنا طرفان متساويان، بل يوجد فقط طرف استعمر التاريخ والأرض، و قام بالتطهير العرقي المنظّم للسكان الأصليين، ومازال يطبق سياسات الفصل العنصري ضد 1.4 مليون فلسطيني داخل أراضي ال48، بالاضافة الى تشريد أكثر من ستة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات. هل تقوم "كسر الصمت" و "مقاتلون من أجل السلام" بتحدي أشكال الإضطهاد المركب من احتلال و تطهير عرقي و أبارتهيد؟ و الإقرار بالمطالب الفلسطينية من خلال المطالبة بتبني النداء الصادرعن الغالبية العظمى لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني؟

إن كل اللقاءات التي تجمع ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين يجب أن يتم وضعها في السياق الصحيح لمناهضة الاحتلال والأشكال الأخرى م الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين، و الأهم أن تكون هذه اللقاءات مناصرة للمقاطعة حسب التوجيهات التي أصدرتها اللجنة الوطنية للمقاطعة آخذة بعين الاعتبار معايير التطبيع التي تم إقرارها من الغالبية الساحقة لمؤسسات المجتمع المدني.

و بالتالي السؤال الذي يتحتم على كل فلسطيني يقوم بلقاء اسرائيليين أن يطرحه: هل يؤيد الطرف الاسرائيلي الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني و على رأسها حق العودة؟ و إنهاء نظام الأبارتهيد في اسرائيل؟! و هل يأتي اللقاء في سياق مقاومة مشتركة لكل هذه الأشكال من الاضطهاد المركب؟

إن الادعاء أن هكذا لقاءات جاءت لإبراز "تضامن" هذه المؤسسات الإسرائيلية مع تصنيف بعض المنظمات الفلسطينية بالإرهابية و أنه لم يكن لدى الطرف الفلسطيني "علم بوجود (مقاتلون من أجل السلام)" لا يعفي الطرف الفلسطيني من المسئولية كون اللقاء ينطبق عليه تعريف التطبيع. و للأسف فإنه في كل مرة تبرز قضية التطبيع على الساحة تجد تعليقات و تبريرات متشابهة بغض النظر عن التوجه الأيديولوجي، و الادعاء أنه لا يوجد تعريف واضح للتطبيع و معايير للمقاطعة, و كأنه لم يتم إقرارها بشكل يتمحور حوله شبه إجماع وطني غير مسبوق عام 2007 و تم تطويرها مؤخراً بعد أن أعلنت الحركة في أكثر من مناسبة ترحيبها بكل ما من شأنه أن يوسع دائرة الحوار المجتمعي الفلسطيني حول هذه المعايير ومبادئ حركة مقاطعة إسرائيل.

إن مرجعية تعريف التطبيع و معايير المقاطعة هي اللجنة الوطنية للمقاطعة. وهنا لابد من التذكير ببعض الحقائق: تتشكل اللجنة الوطنية للمقاطعة من القوى والاتحادات الشعبية الكبيرة (العمال، المرأة، الكتاب، الفلاحين، الطلاب) وجميع الاتحادات النقابية والائتلاف العالمي لحق العودة (أوسع ائتلاف يدافع عن حقوق اللاجئين) وشبكات المؤسسات الأهلية وغيرها من أهم وأكبر الأطر التي تمثل كل قطاعات شعبنا في الوطن والشتات. إن هذا التحالف، وهو الأوسع فلسطينياً دون منازع يستطيع التحدث باسم شعبنا الفلسطيني فيما يتعلق باستراتيجية مقاطعة إسرائيل وأهدافها: إنهاء الاحتلال وإنهاء الأبارثهيد وتمكين ممارسة حق العودة. و لا يسعنا هنا إلا أن نسأل، من له مصداقية أكثر في تطوير معايير مقاطعة إسرائيل أكثر من تحالف معظم قوى ومؤسسات ونقابات وأطر المجتمع الفلسطيني في الوطن والشتات؟ أم من الأفضل أن يضع كل منا معاييره الخاصة، والمنحازة بالضرورة، مما يعني قيام كل مؤسسة منفردة، بما يحلو لها لأنها تعتبر التطبيع فقط ما يفعله غيرها, وهو عادة يميني، بينما ما تقوم به هي فنضال بالتعريف كون هدفه نبيل يسعى لاستقبال المتضامن الإسرائيلي؟ إن رفض فكرة المبادئ التي يتم التوصل لها جماعياً كمرجعية للجميع في حسم الاختلافات والإصرار على مرجعية المؤسسة بمفردها، لهو مؤشر خطير و يتطلب المراجعة النقدية التي من المفترض أن يتميز بها اليسار.

الخلط المتعمد أحياناً, و غير المقصود أحياناً أخرى, بين الدعوة لمقاطعة أي نشاط مشترك مع طرف إسرائيلي لا يعترف يحقوقنا الأساسية التي كفلها القانون الدولي و في مقدمتها حقنا في العودة إلى القرى و المدن التي طهرنا منها عرقياً عام 1948, و "حرية اختيار أدوات النضال و العمل على تفكيك المجتمع الإسرائيلي من الداخل" لا يأخذ بعين الاعتبار أن المنطق الأساسي لحركة المقاطعة يبقى واحداً، وهو تفعيل وتعزيز كافة أشكال الضغط المتاحة على إسرائيل ومؤسساتها في اضطهادها المركّب لشعبنا، بما يراعي خصوصية السياق في كل موقع ويضمن الاستدامة والفاعلية، من أجل استعادة هذه الحقوق وأهمها ممارسة حقنا غير القابل للتصرف في تقرير مصيرنا على أرضنا. من هذا المنحى، فإن مقاطعة إسرائيل و عدم التطبيع مع مؤسساتها التي لا تعترف بحقوقنا هي استراتيجية رئيسية في مقاومتنا للاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي، و تهدف إلى عزل إسرائيل دولياً ومقاومتها داخلياً وعربياً لتعديل موازين القوى لصالح شعبنا ونضالنا من أجل حقوقنا. لا يمكن القيام بذلك دون فك التبعية واستهداف التطبيع بأشكاله والتزام مؤسساتنا الوطنية ، بقطع كل العلاقات الطوعية التي تسهم، بغض النظر عن نواياها، في تعزيز الهيمنة الإسرائيلية وصورة "الحالة الطبيعة" التي تروجها إسرائيل دولياً. فيصبح الاحتلال و الأبارثهيد و الاستعمار الاستيطاني, و الحصار الإبادي في الحالة الغزية, تصبح كلها أمراً "طبيعياً" يعبر عن مشكلة بين "طرفين متنازعين" يمكن حلها بالحوار! و من الواضح أن اللقاء المذكور لم يتطرق بأي شكل كان لأفضل وسائل إنهاء الطبيعة العنصرية لدولة الأبارثهيد, مثلاً. كل ذلك, وللأسف, يتم تبريره على أن اللقاء كان عبارة عن زيارة "تضامن" حسب طلب مؤسسة بيتسيليم.

كم سيكون مفيداً لو قامت المؤسسات الفلسطينية المعنية بمراجعة نقدية داخلية و الإدلاء بتصريح واضح في إطار المسئولية الوطنية التي ميزت عملها على مدى السنين و جعلها هي نفسها هدفاً لمنظومة الاحتلال و الأبارثهيد و الاستعمار.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد