في أواخر العام 1989، أُعلن رسميًا عن نهاية ووفاة الحرب الباردة التي كانت قد بدأت اثر الحرب العالمية الثانية وتشكّل المعسكرين الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي والغربي بزعامة الولايات المتحدة، هذه النهاية أعلنها الرئيسان الأميركي جورج بوش الأب والسوفييتي ميخائيل جورباتشوف، ومع هذه النهاية، بدأ يتشكّل نظام عالمي جديد، أحادي القطب بزعامة الولايات المتحدة التي تقود المعسكر الغربي ومع نهاية الحرب الباردة، لم يعد حلف وارسو قائمًا، لكن حلف الأطلسي ظل عنوانًا للهيمنة العسكرية الغربية على العالم بقيادة الولايات المتحدة منفردةً، مع ذلك ظل التساؤل فيما إذا كانت هناك حاجة إلى بقاء حلف الأطلسي بعد انهيار المعسكر الشرقي وحلف وارسو وانفراد المعسكر الغربي وحيدًا بقيادة العالم، إلا أن هذا المعسكر وجد في «الإرهاب الدولي» عدواً بديلاً عن الاتحاد السوفييتي وكتبرير لاستمرار حلف الناتو، وكان التدخل في أفغانستان بعد هجمات أيلول 2001 تأكيدًا لأهمية بقاء حلف الأطلسي باعتباره ضرورةً غربيّة.
لكن، ومن أفغانستان أيضًا، تجدّد التساؤل حول ضرورة جدوى بقاء حلف الأطلسي، اثر تجاهله من قبل الولايات المتحدة ودون التشاور مع الحلفاء في اتخاذ قرار الانسحاب من أفغانستان، ثم تفردها في برمجة عملية الانسحاب من دون أن يكون للحلف أي دور في هذا الحدث الذي من المحتمل وعلى نطاقٍ واسع أن يشكّل نهاية لتفرد القطب الواحد المهيمن، الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الأقل هناك أكثر من حدث يُشير إلى تجدّد الحديث عن هذه النهاية، وذلك مع بدء الدول الأوروبيّة خاصّة فرنسا وألمانيا في التشكيك بأهمية الحلف وذلك من خلال تجدّد الدعوة إلى إنشاء قوّة أوروبيّة منفصلة عن الحلف والتشكيك بالزعامة الأميركيّة، وحدث آخر يتعلق بتوجه أميركي بالتخلي عن الحلف والأخوة الصغار في أوروبا نحو أقصى الشرق وتحديدًا نحو أستراليا برفقة بريطانيا، وأيضًا دون العودة للحلف أو التشاور مع الحلفاء التقليديين، لبناء اتفاق شراكة جديد لتعزيز التعاون العسكري والدفاعي في المحيطين الهادي والهندي، ما حرم فرنسا من صفقة الغواصات مع أستراليا، هذا التحالف الجديد موجهة علنًا ضد الصين، حسب التوجهات المنفردة من قِبل الولايات المتحدة.
ولكن، قبل ذلك كله كنا نشهد بداية إنشاء تحالفات جديدة أضعفت دور حلف الأطلسي وزعامة الولايات المتحدة للحلف، ما أوهن زعامة هذه الأخيرة على العالم، ففي عهدي ترامب وبايدن ظهر دور روسيا في التأثير على الانتخابات الأميركيّة وقدرتها على التلاعب بالحزبين الديمقراطي والجمهوري، وقبل ذلك تهديد روسيا لكلٍ من جورجيا وأكرانيا ومنطقة القرم أيضًا، دون أي رد فعل من قِبل الحلفاء الغربيين، بينما كان خط نوردستريم الخاص بتوريد الغاز الروسي إلى أوروبا ينطلق متسارعًا ليشكّل أداة روسية استراتيجيّة اقتصاديّة تعتمد عليها أوروبا في تطوير ذاتها، في الوقت الذي تنجح فيه الصين في إتمام سيطرتها على هونج كونج والتبت خلافًا للإرادة الغربيّة.
الصين، لم تعد تنافس المعسكر الغربي في السياق الاقتصادي فحسب، بل هي قوة عسكرية هائلة ومتطورة إلى حدٍ بعيد، وذلك بشهادة أمين عام حلف الأطلسي ينس استولدبرغ حينما أكَّد في آخر تصريحٍ له قبل يومين، أنّ الصين تقترب أكثر من تهديد حدود الدول الغربيّة وتنشر صواريخ قادرة على الوصول إلى هذه الدول، وإنها تمتلك قدرات سيبرانية من شأنها التأثير الخطر على الأمن الأوروبي، الأمر الذي يؤثّر بالتأكيد على مستقبل الحلف، ويمكن فهم هذا التصريح لتأكيد ضرورة بقاء حلف الأطلسي للدفاع عن أوروبا في مواجهة الصين، لكن لا يخفى على الدول الأوروبيّة أنّ الصين معنية في المواجهة المحددة مع الولايات المتحدة التي باتت بالقرب من حدودها، خاصّة بعد قيام التحالف الأميركي الأسترالي البريطاني الجديد، ومن مصلحة الصين الإبقاء على التوتر منفصلاً ومركزًا على هذا التحالف بزعامة الولايات المتحدة بالتوازي مع إقامة علاقات طيّبة مع أوروبا، حيث لا مصلحة لهذه الأخيرة بأي توتراتٍ مع بكين.
بعد نهاية الحرب الباردة، ونهاية تفرّد الولايات المتحدة كقوة مهيمنة بعد تطور الدور الروسي في أزمات أميركا ومكانتها في البحر المتوسط وتلاشي دور تركيا في حلف الأطلسي وعلاقاتها الأكثر توطدًا مع روسيا، في ظل هذا الوضع الجديد نشهد هذه الأيّام خريطة جديدة للقوى العالميّة، خاصةً بعد سلسلة الخطوات التحالفيّة القوية بين روسيا والصين على كافة الصعد الأمنيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، وبالتوازي الانسلاخ المتدرج بين ضفتي الأطلسي، بين أوروبا وأميركا، وبحيث يمكن القول إن عنوان التحالفات المستجدة تنحصر في أن المعسكر الشرقي والتحالف الصيني الروسي بات أكثر قوّة، بينما المعسكر الغربي لم يعد موحدًا وآخذ في التزعزع والانسلاخ وتُحيط بوحدته الشكوك والتوترات، ما يمثّل عودة إلى معسكرين أساسيين يقودان العالم، شرقي بزعامة الصين وروسيا، وأميركي بتحالفاتها في المحيطين الهندي والهادي، بينما أوروبا حائرة تبحث عن مكانٍ بين هذين المعسكرين، أمّا حلف الأطلسي فما عادت هناك ضرورة لاستمراره.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية