أظهرت عملية نفق الحرية التي تمكن خلالها ستة أسرى مناضلين من ولوج أبواب الحرية، ليس فقط قوة الإرادة ودقة التخطيط، بل ومدى القدرة على الصبر التي لا يضاهيها سوى مثابرة وصبر وعناد النمل، ولا أعتقد أن هناك كائنًا آخر يمتلك مثل هذه الإرادة والتصميم في هذا الكون المليء بصراع أزلي مفتوح ولن يغلق بين قيم الحرية والعدالة مع الظلم والظلاميين، كما هو بين الحق في الحياة وإرادة الاستشهاد في سبيلها وبين أعداء الشعوب وحقها في الحياة والعدالة والكرامة الإنسانية.
 
انشغل بعض المحللين منذ لحظة الإعلان عن نجاح عملية تحرير أسرى جلبوع الستة لأنفسهم وحتى اللحظة، بسؤال كيف نجحت هذه الثلّة من أسرى الحرية في اختراق منظومة الأمن القمعية التي تتباهى بها حكومة الاحتلال وتقدم نفسها من خلالها كواحدة من أكثر دول العالم تقدمًا وقدرة على إنتاج منظومات القمع الأمنية في السجون وأنظمة المراقبة والتجسس، كما انشغل البعض الآخر من هؤلاء بوضع سيناريوهات مآلات هذه العملية، وقد غلب على هذه التحليلات، التي ابتعدت عن جوهرها كاشتباك بين إرادتين، سيناريوهات تضخيم القدرة الاسرائيلية ومدى الانبهار "بالأفضلية والتفوق الاسرائيلي" لدرجة أن معظم تلك التحليلات كانت تخلص إلى سيناريو إعادة اعتقال هؤلاء الأسرى أو سيناريو استشهادهم.
 
فقط من عاش تجربة الاعتقال، وخاصةً تجربة التحقيق، يدرك مدى قدرة المناضلين على كسر ادّعاء مثل هذا "التفوق"، بل والانتصار عليه، رغم الاختلال الواضح جدًا في ميزان القوة المادية بين أسير مقيّد القدمين واليدين ومعصوب العينين وبين مؤسسة الاستخبارات بكل إمكانياتها، إلا أن ميزان قوة الإرادة يشكل معادلًا نوعيًا في ميزان القوى؛ فإرادة سلاح الصمت وعقد اللسان ستتفوق وقد تفوقت آلاف المرات على كل مخزون وبنية الاستخبارات المعلوماتية وشبكاتها التجسسية. نعم، بهذه البساطة يمكن خلق المقارنة والتركيز على طبيعة صراع الأسير، سيّما إذا امتلك وعي الصراع، وبأنه يمثل شعب يناضل ويستحق انتزاع الحرية وبلوغ العدالة في مواجهة دولة الاحتلال القائمة على القمع والظلم والقتل والتشريد. إنه صراع الحق مع الباطل وصراع الحرية مع مستلبيها كما هو صراع الحياة مع صُنَّاع الموت.
 
حكاية نفق الحرية هي حكاية إرادة امتشقها وأعلن بها هؤلاء الأسرى بأن لهم الحق في الحرية والحياة، والتي دفعوا من أجلهما أغلى سنوات عمرهم، كما دفع غيرهم من الشهداء حياتهم من أجل بلوغها وانتزاع هذا الحق الانساني والطبيعي في الحرية والحياة. وقد لخّص المناضل العنيد زكريا الزبيدي هذه الحقيقة أمام "قضاة الاحتلال" بأنهم سيستمروا في مثل هذه المحاولة مرة ومرات؛ فهو بهذه المقولة يلخص إرادة شعب لن يستسلم ولن ينكسر أمام غطرسة المحتلين ولا انحناء الباحثين عن الوهم في دهاليز لقاءات العبث و"علاقات التنسيق".
 
وأما المسألة الأخرى التي خرجت إلى النور مع هؤلاء الأبطال من باطن أرض نفق الحرية فهي أن حرية الأسرى، والتي يجري تغييبها عن جدول الأعمال رغم ما يسمى "بلقاءات التسهيلات وبحث العلاقات من كافة جوانبها"، كانت وما زالت تشكل ضمير النضال الوطني، ولا بدّ من اجتراح كل المعجزات لإبقائها حيّة على جدول أعمال هذا النضال، وكعلامة فارقة لحيويته، وليس للتعامل مع استحقاقات الأسر فقط على أهميتها، رغم ما تتعرض له من هجوم شرس يهدف بجوهره لتجريم مجرد رفض الاحتلال والنضال المشروع لدحره. فعملية نفق الحرية، والتي لم تنتهِ تداعياتها بعد، أعادت أهمية طرح مكانة الأسرى الفلسطينيين وضرورة توظيف كل علاقات شعبنا الدولية والدبلوماسية من أجل انتزاع حق هؤلاء الأسرى كونهم أسرى حرب؛ فهذا مكون من مكونات معركة انتزاع الحق في تقرير المصير التي ضحّى ما يزيد عن سبعمائة ألف فلسطيني بجزء من أعمارهم في زنازين الاحتلال وأقبية التحقيق، كما قدّم عشرات الآلاف أرواحهم من أجل انتزاع هذا الحق المقدس والتمكن من ممارسته بكل أبعاده.
 
الأمر الأخير الذي أبرزته هذه العملية هي وحدة أرض المعركة وعليها تتوحد إرادة الشعب في صراعه المتواصل من أجل الحرية، وما تتطلبه هذه الحقيقة من بحثٍ جدّيّ لبلورة حركة وطنية متجددة تعكس وحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وتجمعاته والتفافه حول قضيته الواحدة، ومدى حاجته لقيادة وطنية موحدة وجسورة تتناسب مع تضحيات شعب فلسطين، وجرأة هؤلاء الأبطال، لتُصَوِّب مسيرة كفاحه وتعيد بناء حركته الوطنية برؤية جديدة مستفيدة من مراجعة جادة للمرحلة السابقة، وتقودها نحو نصر ٍأكدت هذه العملية، ليس فقط إمكانية تحقيقه، بل ومدى حاجة الشعب الموحد لمثل هذا النصر، مهما بدا صغيرًا، ولكنه يؤسس ويراكم لمرحلة الخلاص من الاحتلال وغطرسته واستيطانه وسجونه، وهذا هو الدرس الأهم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد