يثبت لابيد المرة تلو المرة أنه بات واحداً من أذكى الشخصيات الإسرائيلية التي اعتلت المسرح السياسي في إسرائيل.


ظهر هذا الأمر جليا عندما قاد بحنكة غير معهودة ماراثونات المفاوضات قبل تشكيل الائتلاف الحاكم اليوم، واستطاع في ظروف معقدة للغاية، واستثنائية بكل الأبعاد والمقاييس أن يلملم ويجمع في سلة واحدة أكبر عدد من المتناقضات السياسية والأيديولوجية والمشارب الحزبية، وأن يولّف بين كل هذه الفسيفساء السياسية بهدف الإطاحة بالليكود، وبنتنياهو بفارق صوت واحد.


قبل لابيد بمنطق (النأي بالنفس عن طرح الموضوع الفلسطيني)، وتنازل لشركائه عن زعامة الحكومة، وأعطى لحزب «صغير» رئاسة الحكومة، واسترضى الجميع دون استثناء، وحقق لهم جميعا كل ما طلبوه وتطلعوا لتحقيقه.


هو الوحيد الذي تمكن من هزيمة نتنياهو، وهو الوحيد الذي تنازل عن مكتسباته كحزب أول في هذا الائتلاف، وهو الوحيد الذي ترك لكل شركائه الهوامش الكبيرة في كعكة الحكومة القائمة، اليوم.


وبهذه المعاني كلها فإن لابيد ظهر وكأنه الرجل المسؤول الذي آثر تحقيق الهدف على مصالح حزبه الخاصة، وظهر أنه يختلف بصورة جذرية عن كل القادة والسياسيين الإسرائيليين، الذين «غاصوا» في أوحال الانتهازية السياسية، وتوغلوا في لعبة الابتزازات السياسية، ناهيكم عن شبهات أخرى تكاد تلصق بالطواقم الحزبية الإسرائيلية بقدر ما يتعلق الأمر بالمناصب والمكاسب والامتيازات من كل الأنواع وفي مختلف المجالات.


وبالرغم من أن كل هذا يشكل إنجازاً كافياً وكبيراً بحد ذاته، خصوصاً وأننا نعرف جميعا كيف استطاع نتنياهو أن يفلت بما يشبه «السحر» من كل الكمائن السياسية، ومن كل المحطات التي كانت تبدو كل واحدة منها أنها المحطة الأخيرة، بالرغم من كل ذلك فإن لابيد في توقيت خاص ودقيق للغاية أرسل رسالة جديدة إلى كل من يهمه الأمر.


رسالة مفادها أن موضوع الدولة الفلسطينية ليس مطروحاً في فترة رئاسة نفتالي بينيت للحكومة الإسرائيلية، وهو ما يعني أن هذه الدولة ستكون مطروحة في مرحلة لاحقة، أو عندما يتولى هو رئاسة الحكومة الإسرائيلية.


هذه الرسالة لم يرسلها لابيد بالشيفرة السياسية، ولم يتردد بالإجابة عن دعمه لحل الدولتين، كما لم يتردد في توضيح أن طرح قضية الدولة سيكون في فترة رئاسته للحكومة.


إذاً، ليس بما هو «مفهوم ضمناً» ولا بالإيماء ولا بالإيحاء، وإنما بصراحة ووضوح ودون مواربة.


إذا راجعنا ردة فعل الوزيرة المتطرفة شاكيد على أقوال لابيد نستطيع أن نستجلي المسألة كلها.


شاكيد قالت، إن «حزبها» لن يكون شريكا في أي حكومة تتعاطى الشأن الفلسطيني في جانب قيام الدولة الفلسطينية.


وعندما سأل أحدهم شاكيد عن الرد الذي سيرد به نفتالي بينيت على سؤال بهذا الشأن قد يطرح عليه من الرئيس الأميركي بايدن أجابت، سيجيب بأنه ضد حل الدولتين، وأضافت، في حكومة نحن أعضاء فيها لن تقوم دولة فلسطينية، وتابعت، لابيد واليسار يعرفون ذلك، ولم يكن مطروحا في إطار هذه الحكومة أي قضايا خلافية من هذا القبيل.


باختصار فإن شاكيد تقول هنا، إن تصريحات لابيد هي «خارجة» عن نطاق وسياق اتفاق تشكيل الحكومة، وإن هذه الحكومة ستنفرط وسينتهي «عقدها» إذا طرحت مسألة الدولة الفلسطينية على جدول أعمالها.


من حيث الشكل والمحتوى أيضاً فإن الوزيرة المتطرفة على حق، ولابيد يعرف أنها على حق، والكل يعرف أنها على حق.


هنا يبرز السؤال: طالما أن الأمر كذلك فلماذا سمح لابيد بالمقابلة التي صرح خلالها عن هذه المواقف؟، ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟، وهل لهذه المواقف علاقة بزيارة نفتالي بينيت إلى الولايات المتحدة؟، وهل يتعلق الأمر برسالة أراد لابيد إيصالها إلى الإدارة الأميركية؟
واضح أن الجواب عن كل هذه الأسئلة هو نعم، ونعم كبيرة. أما الأوضح فهو أن لابيد يحضر نفسه لدور سياسي كبير، ليس لترؤس الحكومة في الفترة الثانية ـ لأن هذه الفترة ليست مضمونة، ولا هي مهمة إلى هذه الدرجة ـ وإنما لدور يكون هو فيه الزعيم الأول في إسرائيل، وكبديل عن شخصية كبيرة كنتنياهو، ويكون حزبه هو الحزب الأول، ويكون شركاؤه من القادرين على تحمّل المسؤولية السياسية لخوض غمار التسوية السياسية من وجهة النظر الإسرائيلية، والتي هي صهيونية معدّلة بالقدر «الممكن»، ليس من حيث جوهر المشروع الصهيوني ولكن من حيث أشكال التعبير عن هذا الجوهر في الحالة الدولية والإقليمية والمحلية المحيطة، وبما يبقي الدولة الإسرائيلية خارج دائرة الاستهداف المباشر، وخارج الزاوية الحرجة التي باتت تدفع الواقع الإسرائيلي وتفهمه وتصنفه بنظام «الأبارتهايد».


أحزاب «الوسط» و»اليسار» في إسرائيل باتت على قناعة بأن تهمة الفصل العنصري لم تعد لا مستهجنة ولا مستغربة، بل ولم تعد واحداً من عدة احتمالات، وإنما باتت ـ وهذا هو الخطر الأكبر عليها ـ تهمة علنية ومعلنة وتتدحرج باتجاه الدولة الإسرائيلية كصخرة ستضرب هذه الدولة في مقتل سياسي مدمر للمشروع الصهيوني في أخطر أركانه ومرتكزاته.


قلنا، إن لابيد لم يفصح عن هذا كله، و»الوسط» و»اليسار» لم يبلوروا بعد الرؤى والاستراتيجيات المطلوبة، ولكن هذا الأمر أصبح على الأبواب، وهو قادم لا محالة.


أما البديل عن سياسة كهذه في إسرائيل فهو البديل الفاشي الذي لا يهمه تهمة الفصل العنصري بقدر ما يهمه الإحكام على مفاصل الدولة الإسرائيلية، والإبقاء عليها استيطانية وعنصرية ومستعدة في أي لحظة للذهاب إلى ما هو أبعد من هذا كله نحو «الترانسفير» والمذابح الجماعية.


لابيد لم يكفّ عن كونه صهيونياً، ولن يكفّ عن ذلك، ولكنه ليس مستعداً على ما يبدو لأن يعرض إسرائيل للأخطار التي يراها مدمرة أو مزعزعة لوجودها ومستقبلها.


اليمين المتطرف في إسرائيل لا يرى في العنصرية والتوسعية خطراً على إسرائيل، بل يرى أن هذه العنصرية والتوسعية هي السبيل الوحيد والأوحد للحفاظ على مستقبلها.


لابيد هو الزعيم الإسرائيلي الأول الذي ينوي منافسة اليمين العنصري والتوسعي ليس بالمواقف الذيلية التابعة والخانعة لهذا اليمين، وهو مستعد على ما يبدو لأن يتزعم جبهة إسرائيلية جديدة يكون فيها حزب «الوسط» الذي يمثله هو الحزب المركزي والأول في إسرائيل، محاطاً باليسار وبعض الأطراف اليمينية المستعدة لخوض غمار هذه التجربة  السياسية معه وإلى جانبه.


الرسالة التي بعث بها لابيد إلى الإدارة الأميركية واضحة. دعكم مما سيقوله لكم نفتالي بينيت، هذا رجل مؤقت، في زمن مؤقت، وبترتيبات مؤقتة، لأن القادم في إسرائيل هو قادم جديد، قادر على تحمل أعباء المرحلة القادمة.


لم يكن لابيد ليرسل هذه الرسالة إلى الإدارة الأميركية، وإلى الإقليم العربي، وإلى القيادة الفلسطينية، لولا أنه بات على يقين من أن حزب الليكود لن يتماسك لفترة طويلة قادمة، ولم يعد نتنياهو قادراً على لعب دور الساحر الذي أتقنه حتى الآن، أو حتى تاريخ إخراجه من شارع بلفور.


ولابيد يعرف أن نفتالي بينيت ليس بديلاً لنتنياهو، وغانتس تلطخت يداه بالانتهازية السياسية، وإذا ما تمردت قيادات جديدة في «الليكود» على نتنياهو فصورة «الليكود» ليست مرشحة إلا لمزيد من الاهتزاز.


باختصار تتمهد الطريق شيئاً فشيئاً أمام لابيد ليكون زعيماً سياسياً كبيراً وليس مجرد رئيس حكومة في إسرائيل لفترة ثانية بعد انتهاء فترة نفتالي بينيت.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد