كلما هاتفت أحدهم.. بادرني بالسؤال " شو الحدوتة اللي صايرة في الجامعة الفلانية؟!.. شو بيتحدتوا هالأيام بالمؤسسة الفلانية؟! ".. كلما هاتفته أخبرني مستهلا الكلام ب" والله في حدوتة عن الكولسترول قرأتها على الموقع الفلاني.. ثم يستكمل.... أو اسكت مش عرفتلك حدوتة الكارونا.. ثم يكمل.. إلخ إلخ.. " وحين ينهي كلامه يعقب.. وهذه هي الحدوتة..!!

له أقول.. يا هذا.. في السياسة والتاريخ والأدب والإعلام -تخصصي- أي نعم توجد حواديت.. في العمارة التي تسكن في إحدى شققها الكئيبة.. تكثر الحواديت.. في صراعات أشباه النساء أو أشباه أزواجهن مع نساء ورجال حقيقيين.. في الحارة الرديئة التي من سوء طالعك أنك نشأت وتربيت فيها أو مررت منها.. توجد حواديت.. في محيطك الإجتماعي "المعجوق" بالأمراض.. توجد الحواديت كأورام غير حميدة

لكن في الهندسة أو الطب أو الجيولوجيا أو الصناعات الثقيلة أو الصحة النفسية -تخصصي- مثلا.. لا توجد حواديت قط.. هذه علوم.. تتمخض عنها أبحاث لا تتضمن تصفيط الورق.. وتتشكل قوانين واكتشافات ومعادلات رياضية.. وليست حواديت يا غراب البين.. هل تفهم هذا؟! هل تأخذه بالحسبان وأنت ذاهب للحمَّام القديم خاصتك..؟! هل سيعني هذا لك.. أن تعالج عقلك وتحفزه ضد الخرافات والحواديت لتعنون كلامك أو تستهله أو تختمه صح؟!

إلا إذا كانت الحواديت هي سقف معرفتك وفكرتك عن العلم كله.. ووسيلتك النهائية لتشكيل وعيك إزاءها.. او كنت أنت حدوتة نفسك والمحيطين.. أو كانت الحدوتة هويتك بالكامل.. حينها حَدِّتْنا ولا تبالِ.. أكمل حواديتك لتسلينا حَدِّتْنا -قطعك الله- فالإسهال هدية غير رديئة منك لأمعائنا التي خربطها القولون العصبي مبكرا.. لأننا ناضلنا معرفيا ضد وعي الحواديت

الحواديت التي طالما تركزت وتناسلت وتكاثرت لتبدو طابعا تراثيا.. في معابد الكهنة.. وفي دواوين العائلات والعشائر.. ومراكز الطب الشعبي المزعوم وأساطيره.. وفي مارثونات الطرق الوعظية عندنا نحن المسلمين.. فمثلا ثمة شيخ داعية مشهور جدا في خانيونس.. لا يقيم صلب كل خطبه وفعالياته الدعوية داخل المساجد وخارجها.. دون أن يكرر حواديته عن عاقي آبائهم ونهاياتهم المأساوية كما حدثه من يثق بهم.. وأخرى عن رجل بخيل كان يغل أيديه إلى عنقه وكيف مات من قلة.. وغيرها عن امرأة فرقت في رعاية أبنائها لإعتبارات جنسهم فخسرت حبهم لاحقا وساء مصيرها.. ويقسم هذا الداعية على أن خراريفه وحواديته صحيحة.. يمكن الاعتماد عليها كمنافسة لتأثير القرآن والسنة لأن العبرة فيها واضحة والعظة ماثلة للعيان..

وهنا المشكلة.. المشكلة أن الحواديت لا تسمن ولا تغني من ثقافة أو وعي أو معرفة أو جوع.. الحواديت حلوة وجيدة وحل للذين يجبنون أمام أسئلة الحياة ونداءاتها المعرفية وعمقها حين تتصادم مع هويتنا الفكرية.. في هذا العالم وهذه الحياة.. لا أحد يقول جئتكم من سبأ بالحواديت.. بل لا زالت سبأ لكي تأتي منها بنبأ.. تحتاج الهدهد الذكي المراقب الدقيق معششا داخل قمر اصطناعي.. ليكتب سيرتها بالملاحظة التي هي إحدى وسائل العلم.. لا بالحواديت

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد