ثمة فرق كبير بين حريتنا في التعبير عن وجهة نظرنا وعن رأينا ومواقفنا، وبين طريقة تعبيرنا عن تلك الحرية. وفيما حرية التعبير حق فإن طريقة التعبير عن هذه الحرية يجب أن تنضبط ضمن معايير ونظم واضحة؛ حتى لا تسود فوضى الآراء والاحتراب من أجل فرض رأي على آخر. ما يحدث عندنا وفي الكثير من البلدان، أن الكثيرين لا يجيدون التعبير عن هذه الحرية فيعتدون على حرية الآخرين بطريقة سافرة. حرية التعبير حق وحق كفلته الشرائع والنظم، لكن كيف نعبر عن هذه الحرية ليس شيئاً مقدساً، بل هو اجتهاد فردي خاضع للصواب والخطأ. المؤكد أن الكثيرين لا يعرفون التمييز بين الحق وبين الممارسة. فكون الحق حقاً لا يعني أنه يمكن لكل فرد أن يمارسه بطريقته الخاصة. لا مشكلة في حرية التعبير ولكن المشكلة الحقيقية في كيف نعبر عن هذه الحرية. والمتأمل لفوضى التعبير عن الحرية وعن حرية الرأي يدرك أنها ليس أقل خطورة من منع الأفراد من التعبير عن رأيهم. لأن الفوضى تعم حين يعتبر كل فرد نفسه على صواب، وحين يتم تجريم الآخرين تحت حجة أننا نمارس وجهة نظرنا وحقنا في التعبير عن رأينا. هذه أصولية من نوع مختلف لا تقل خطورة عن منع الآخرين من التعبير عن وجهة نظرهم. وجب هذا التمييز من أجل الوقوف على المعضلة الحقيقية التي تمارس منظومة الحريات في مجتمعنا.
أساس حرية الأفراد حقيقة أنهم متساوون وأن للجميع الحق في ممارسة حقه، ولا يجوز منع الآخرين من القيام بما يريدون أو التعبير عن مواقفهم بالطريقة التي يريدون، ولكن أساس ذلك أن للجميع هذا الحق وأن ممارسة البعض له لا يعني منع الآخرين منه، أو أن قيام البعض به لا يعني اعتداءً على حقوق الآخرين. إنه نفس المنطق الذي نشأ منه العقد الاجتماعي. فالبشر أحرار في ممارسة حياتهم ولكن إذا ترك الجميع يمارس ما يشاء وكيفما يشاء، فإنه من المؤكد أن حالة من التصادم ستحدث بين الأنوات المختلفة في المجتمع، ما سيخلق حالة طبيعية غير سوية، لذا وجب وجود عقد اجتماعي بين الأفراد المختلفين في الجماعة ينظم ممارسة الجميع لحقه. هذا العقد كان وسيظل أساس وجود الحياة الديمقراطية في المجتمع. صحيح أن كل فرد يتنازل عن جزء من حقوقه «الفطرية» لصالح جهة أسمى من الأفراد هي «الليفيثان» أو الدولة، ولكن في المقابل هو يحمي حقه في مواصلة التعبير عن حقوقه كلها. ثمة صفقة ما يرضى بها الجميع من أجل الجميع. العقد الاجتماعي هو حجر الرحى في استقرار المجتمعات لأن المجتمعات بحاجة لتنظيم شؤونها حتى لا تسود حالة الغابة التي ميزت المجتمعات البشرية قبل وصول الأفراد لهذه التسوية المرضية للجميع.
حين ممارسة الحرية، فإننا بحاجة لمثل هذا التسامح في أكثر من جهة. أولاً جهة تقبل أن للآخرين رأياً مختلفاً عن رأينا وأن من حقهم أن يعبروا عن هذا الرأي كما نعبر نحن عن رأينا. لأن الحقوق لا تتجزأ، وما هو حق لنا كأفراد أيضاً حق للأفراد الآخرين. هذا التسامح يعني أننا لسنا على صواب، كما أنه لا يعني أن الآخرين على صواب، ولا يعني أيضاً أن الحقيقة غير موجودة، لكنه يعني أن الحقيقة هو مقدرتنا على تقبل آراء الآخرين بغض النظر عما إذا كانت وجهة نظرنا صحيحة أو خاطئة. هذا مربط الفرس. الأمر الآخر أننا حين نحجر على الآخرين رأيهم ونراهم خطأ، فإننا بالضبط مثل من يمنعهم من التعبير عنه. ماذا يفرق من يرى رأيه أنه الصواب إذا كان متديناً أم علمانياً. هذه «الأصولية» هي ذاتها الذي يمارسها المتطرفون على ضفتَي النهر. للأسف بمتابعة ما يجري عندنا نرى هناك مجموعة تعتبر نفسها علمانية وتقدمية وربما ليبرالية تريد المجتمع أن يسير على طريقتها لأنها تعتقد أنها على صواب. وهي مجموعة ضيقة بالمناسبة ولا يمكن لها أن تكون معبرة عن المجتمع. إنها بالضبط تشبه المتطرف الأصولي الذي يريد للجميع أن يعيش في القرون الوسطى مثلاً. كما أن الحرية لا تتجرأ، فإننا لا يمكن أن نفرض على الآخرين ما يعتقدون بصرف النظر عن وجهة نظر في معتقداتهم الاجتماعية والثقافية والفكرية.
حين تتابع السوشيال ميديا وترى هذا الكم من الإسفاف وتلفيق الأخبار أو التهكم من الآخرين والتنمر، تدرك حقيقة أن الأزمة الحقيقة في مجتمعنا في تعبيرنا عن حريتنا في التعبير وليست شيئاً آخر. مثل أن يصار إلى التشهير بشخص بنشر حياته الشخصية أو صوره الخاصة مع زوجته أو تأليف مواقف وتصريحات على لسانه من أجل المساس بمكانته. في المجتمعات الديمقراطية الحقيقة لا يجرؤ أحد على فعل ذلك لأن ثمة قانوناً يحمي كل مواطن من رأي المواطن الآخر. لأنه لا يمكن أن تسب على الآخرين بحجة أن هذه وجهة نظرك. حتى العهد الدولي الذي كفل الحق في التعبير عن الرأي أشار في المادة التاسعة عشرة إلى الضوابط بعدم المساس بالآخرين أو تعريض حياتهم ومكانتهم للخطر.
ثمة غياب حقيقي للثقافة السليمة في ممارسة سلة الحقوق، وثمة من يعتقد أن الحقوق بلا واجبات، وثمة من يريد أن يدفع المجتمع للاحتراب تحت دواعي أنه يقول ما يريد. إن هذا الأصولي الذي يتشدق بالليبرالية هو ذاته الأصولي الذي يريد أن يزج المجتمع في زنزانة الماضي، كلاهما عدو حقيقي للحرية التي لا يرون منها إلا ما يخدم وجهة نظرهم. فلا التدين ولا العلمانية تنصان على ذلك، لأن الحقيقة أيضاً ليست بيده، ولأن للجميع الحق في البحث عنها. وتظل الحرية غائبة لأن هناك من يسيء التعبير عنها تحت حجة حريته في التعبير.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد