إن كان هناك من مفاجأة في رؤية كل ما جرى وما يجري في أفغانستان الآن ـ في لحظة كتابة المقال ـ فهي سرعة انهيار المدن والمقاطعات الأفغانية، ودخول قوات طالبان بيسر وسهولة، ودون معارك حقيقية، ودون أي صخب أو ضجيج، والنتيجة أن الحكومة الرسمية قد انتهت وهي مغادرة، كأنّ أمر هذا الانهيار كان من قبيل التحصيل الحاصل، وكأن لا خلاف ولا اختلاف على هذه النتيجة.
المسألة باتت واضحة: يتم «تحرير» أفغانستان بالكامل من قبل قوات طالبان، وتنتهي السلطة الرسمية في كل أنحاء البلاد. تبقى العاصمة كمركز للسلطة الرسمية هي موضوع الاستلام والتسليم بصورة رسمية، وعلى أساس «سلمي»، ويتم التفاوض على عدم تعرض قوات طالبان للجهاز المدني والعسكري للسلطة (السابقة)، ويمكن وضع اللمسات الأخيرة والتفاصيل النهائية في الدوحة، في نفس الوقت الذي يتم فيه «التفاوض» بين الولايات المتحدة وأوروبا وبعض الحكومات الأخرى لتأمين سلامة البعثات الدبلوماسية وتأمين ترحيل من يتم الاتفاق على ترحيلهم.
على ما يبدو فإن إدارة «مؤقتة» ستتسلم السلطة من الناحية الشكلية بطبيعة الحال، وسيتم الانتهاء من هذه الإدارة بمجرد دخول قوات طالبان إلى العاصمة وتشكيل إدارة جديدة تحكم طالبان سيطرتها المطلقة عليها.
ليس هذا كله فقط، وإنما ـ على ما يبدو ـ أن الولايات المتحدة قد «أبلغت» السلطة الرسمية بكل هذا المسار، واتفقت معها على  كامل السيناريو الذي نشهد فصوله تباعاً، بما في ذلك تفاصيل «الضمانات» التي قدمتها طالبان مقابل الانتقال «السلمي» للسلطة، ومقابل «تعاون» الرئيس الأفغاني لتسهيل مهمة هذا الانتقال، وأغلب الظن أن الحكومة ورئيسها لم يحضروا مراسم الاستلام والتسليم.
باختصار فإن الإدارة الأميركية سلمت أفغانستان لطالبان، وباعت السلطة الرسمية لطالبان، وهي تشرف الآن بوساطة الوكيل القطري على إنهاء كامل العملية، ولم يتبق سوى الإجلاء الآمن للقوات الأجنبية وربما بعض القيادات الرسمية للنظام «السابق»، واغلب الظن أن الاتفاق سيتم على هدنة لمدة أسبوعين لإنهاء الأمور.
في الحقيقة فإن «الدفاع» عن بقاء نظام الرئيس أشرف غني كان يعني المزيد من التدخل العسكري، وهو التدخل الذي فشل فشلا ذريعاً، ولم تتمكن واشنطن على مدار أكثر من عقدين كاملين من بناء جيش أفغاني يمكنه الدفاع عن هذا النظام، وأقصى ما يمكن الذهاب إليه هو حكومة جديدة انتقالية. ولهذا قررت واشنطن الانسحاب وتسليم السلطة لطالبان بعد أن «ضمنت لنفسها» انسحابا سلساً وغير مذل، وليس تحت النار، بل وباتفاق مباشر وتفصيلي مع طالبان.
الرئيس بايدن أجاد في «تخريج» الانسحاب الأميركي، والمؤكد الآن انه قد نسق الأمر مع قادة الغرب، وربما مع بعض القوى الدولية أيضاً.
الشروط الأميركية لهذه «الصفقة» أصبحت محددة وواضحة: يتم «ترويض» طالبان لتكون مقبولة من المجتمع الدولي مقابل «خنق» اقتصادي دولي محكم وشامل إذا تم «خرق» بنود الاتفاق مع واشنطن بما في ذلك البنود التي لم تذكر، ولن تذكر (وهي البنود السياسية) لأن البنود المعلنة حتى الآن هي بنود اجتماعية تتعلق بالمرأة وحقوق الإنسان وغيرها.
لكن ما هي البنود السياسية المفترضة التي لم يتم الإعلان عنها في هذه المرحلة؟
لنبدأ بالبنود غير المعلنة ولكنها تعتبر من البنود المعروفة، والتي لا يمكن إلا أن تكون جزءاً من الاتفاق:
اولاً: أن تتعهد طالبان بمنع تحويل أفغانستان إلى مركز لنشاط «القاعدة» أو أي تنظيمات إرهابية معادية لواشنطن.
ثانياً: أن لا تسمح طالبان لأي تواجد من أي نوع كان لكل من روسيا أو الصين تحت أي ذريعة أو مبرر.
ثالثاً: أن تكون طالبان جاهزة للتحرك ضد دول الجوار بما في ذلك إيران وباكستان فيما إذا أخذت هذه البلدان أو اتخذت سياسات معادية للولايات المتحدة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
رابعاً: أن تضمن طالبان عدم التعرض للأقليات الدينية أو العرقية لأن من شأن ذلك أن يعيد البلاد إلى حرب أهلية جديدة تنسف كل الترتيبات الأميركية.
خامساً: لا يوجد بحدود ما هو معلن أي دور محدد لقطر في هذه الصفقة باستثناء الدور الذي نعرفه عن «الوساطة» على مدى أكثر من سنتين.
الأمر لا يمكن أن يتوقف هنا، ولا بد أن قطر ستكون الدولة المركزية التي ستشرف على الكثير من أوجه النشاط الاقتصادي في هذا البلد، وربما أنها ستكون المشرف المباشر على إعادة إعمار أفغانستان، وإعادة تأهيل الإدارة فيها.
خامساً: ليس مستبعداً أبداً أن تكون هناك اتفاقات سرية حول وجود أنشطة تجسسية للولايات المتحدة، وما يستلزمه ذلك من قواعد لوجستية كبيرة ومتطورة، لأن الولايات المتحدة في تلك البلاد تحتاج إلى رصد استخباري هائل ضد روسيا والصين، وضد إيران، وربما باكستان أيضاً.
طبعاً طالبان «ستحترم» الاتفاق مع واشنطن بكل تفاصيله، لأن الولايات المتحدة والغرب يستطيع خنق طالبان سياسياً، ويستطيع خنق طالبان اقتصاديا بالكامل، والغرب لن يعبأ لا بقضايا المرأة ولا بقضايا حقوق الإنسان في حال أن التزمت طالبان بالجانب السياسي من هذه الصفقة.
الغرب سيتذرع بالجانب «الاجتماعي السلوكي» لطالبان فقط إذا تخلت حكومة طالبان عن «الالتزامات» السياسية من هذه الصفقة.
الدور الذي قامت به قطر يعتبر من وجهة النظر الأميركية مهما وكبيرا ومميزا، وهو ما سيعطي دفعة جديدة للعلاقة الأميركية القطرية، وربما سيصل إلى حدود «تسليم» الولايات المتحدة بدور محوري لقطر في منطقة الإقليم العربي والإسلامي. هذا الدور حتى ولو أنه دون دول الإقليم الكبيرة، أو دون دور الدولة الإقليمية، إلا أنه لن يلقى استحساناً من دول الإقليم الكبيرة في المنطقة على كل حال.
الأمر المهم هنا هو أن قطر ستحاول ـ كما أرى ـ وبعد «النجاح» الذي تحقق ـ من وجهة نظر قطر ـ لدبلوماسيتها في أفغانستان أن تعيد الكرة للوصول إلى توافقات أميركية مع حركة حماس ، وذلك بهدف تسويق هذه الأخيرة للإدارة الأميركية الجديدة، أو على الأقل لوضع حركة حماس على جدول أعمال الترتيبات «المنتظرة» على صعيد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
أغلب الظن هنا أن قطر والتي كما قلنا اكثر من مرة هي المقاول الرئيس للعلاقات الأميركية مع منظمات «الإسلام السياسي» وخصوصا جناح الإخوان المسلمين، وبعض المنظمات «الجهادية»، وحتى بعضها العنيف والمصنف في دائرة الإرهاب الدولي عند أوساط عربية وغربية مختلفة، أغلب الظن أن قطر ستستثمر في هندسة الصفقة الأميركية مع طالبان من أجل «تسويق» مشروع حركة حماس للبقاء متحكمة بقطاع غزة ، وللبقاء سبباً في الإبقاء على حالة الانقسام في الساحة الفلسطينية، بانتظار مستجدات الساحة الفلسطينية وتحديد الأدوار الممكنة لكل طرف في أطراف هذا الصراع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد