ليس أقسى من الشعور بالظلم، ولا أشد مرارة من شعور الأسير أن قهره وعذابه يستمران بعد تحرره، فكيف إن كان ظلم ذوي القربى! انه شعور ابتلاع العلقم، وعقد مقارنات غير عادلة ما بين سجن الاحتلال وحقائق المكعبات الاسمنتية خارجه. حينها، لن يعبأ الأسير بخروجه من سجن إلى سجن آخر، حيث تبقى أحلامه، في الحالتين، حبيسة.
القصة ابتدأت لدى توجه الأسير المحرر «عصمت منصور» إلى وزارة التربية والتعليم، طالبا معادلة شهادته الجامعية ورواياته التي ألَّفها في السجن. «لا يجوز أن يُهدر الكلام مثل عين ماء سائبة..على أحد ما أن يلتقطه». جملة ترد على لسان أحد شخوص روايته الثانية «السِلْك»، توضح رؤية «منصور» متوالية الأسلاك التي تسلِّم بعضها البعض المزيد من الأسلاك، والأسلاك في نظر «منصور» ليست مادية فقط، بل مفاهيمية وعبثية.
اختار «عصمت منصور» مواصلة تعليمه «التراجيدي» في السجن رافعا قيمة زمن فاقد لوظيفته.. فأبقى حقيبته المدرسية مشدودة إلى كتفيه قافزا من فوق حاجز الثانوية العامة .. باتجاه الحصول على شهادة البكالوريوس في الاعلام من «جامعة العالم» الأميركية. وبوعي لخياراته، أمعن في قرض الكتب، في مكان بلا تفاصيل تشرد انتباهه، فتخرج من مدرسة السجون بعد عشرين عاما، مناضلاً يتأبط روايات ثلاث أغنت مكتبة أدب السجون الفلسطينية، لكن «التراجيديا» لم تنته بالإفراج عنه.
هل طلب الأسير المحرر الكثير في نظر وزارتنا، أليس من حقه استكمال دراسته في جامعات وطنه. ثم أي رسالة توجهها الوزارة للمناضلين المضحين بزهرة شبابهم، من أجل بقاء القضية الوطنية حية، وهل تعتقد الوزارة أن وجودها لم يكن ثمرة مقاومتهم وتضحياتهم!
هل صدفة أن تشير الأرقام إلى اعتقال أكثر من نصف مليون فلسطيني منذ الاحتلال، إنها الخصوصية الفلسطينية تحت الاحتلال التي تستلزم إدارة الحياة بخصوصية فلسطينية ترتسم ملامحها وتظهر في كل شيء، وأي مفهوم يخرج عنها، يندرج في إطار عدم الاكتراث بتجسيدها كأحد المعالم التي تميزنا، كشعب وقضية. وعليه، تتحول في الوعي العام كأحد أشكال «كيّ الوعي»، جعل فكرة النضال فاتورة باهظة الثمن..!
بائس من يفهم دعوتي، دعوة إلى «هرغلة» التعليم. بل انها دعوة للتعامل مع واقع وجود خمسمائة وعشرين طالباً جامعياً حاليا داخل السجون الاسرائيلية، يدرسون في جامعات مُتاحة، من الضفة الغربية بما فيها القدس ومن قطاع غزة وفلسطين 48، دلالة على انها قضية جماعية تخص الأسرى يفترض التعامل معها بجدية.
سيخرج الأسرى ويتخرجون تباعاً من مدارس السجون المفتوحة على مصراعيها، وسيحتاجون من الوزارة وكذلك الجامعات إلى معادلة شهاداتهم بعدد من الساعات المستحقة وفقا لمعايير موضوعية، عوضاً عن إغلاق الأبواب في وجوههم، والتمسك البيروقراطي بالشكل على حساب المضمون. ألا يرى القائمون أن الكتب التي قرأها الأسرى أكثر من عدد الكتب التي قرأها طلبة ايّ جامعة من جامعاتنا، وألا تستدعي إصدارات المثقفين منهم تعاطياً استثنائيأ من القائمين والمسؤولين! انظروا ماذا فعلت الوزارة الموازية في غزة!
الوزارة لا تعترف بشهادات بعض الجامعات ومنها «جامعة العالم» الأميركية وتعتبرها وهمية، وهو حق لها لا ننكره عليها، ولا مجال للمقارنة بين عدم اعترافها هذا، وفقا لمعاييرها، وبين اعترافها ذاك، بشهادة «الجامعة العبرية» المقامة على أرضنا المحتلة، جفاءً مع الخطاب الشعبوي صاحب المكانة المرموقة في الساحة، لقدرته السحرية في حسم السجالات والمماحكات الخطابية.. بل اطالب الوزارة النظر في عدم امتلاك الأسرى رفاهية الاختيار بين الجامعات، وفي منعهم المعروف من السفر بعد تحررهم طلبا للعلم، إلا مبعدين. ودعوة مخلصة لإعادة النظر في نظمها والبحث في مذكرة «حملة حق الأسير في التعليم» ومطالبتها تشكيل لجنة أكاديمية مشهود لها، تدرس مقترحاتهم بشأن المعايير العلمية لمعادلة شهاداتهم.
خارج السجن، يكتشف الأسير مفارقات الزمن الفلسطيني الغريب، فيكتشف أن مقدرته في السجن على اعتقال سجنه وتحجيمه عالية، لأنه يقاوم. ويكتشف أن قدرته على منع القيود من ان تسرح وتمرح في رأسه كما تشاء، لانه يقاوم. فيحصل على شهادة «بطل» في السجن معترف بها، وشهادة أخرى لاستكمال حياته غير معترف بها، لأنه يقاوم.
في القصة القادمة للأسير «منصور» سنقرأ: و»لأن الكلام يُهدر مثل عين ماء سائبة، ولم يجرؤ أحد ويتقدم لالتقاطه، يتخرج الأسرى من بين الجدران الأربعة، وقد كبروا وشاخوا، متأبطين شهادات وهمية، وروايات وأشعار وأغاني ومرثيات ساخرة، لأن أحدا لم يلتفت أو يكترث لجوهر ومعاني تجسيد الخصوصية الفلسطينية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية