يعتبر رفع شعار «لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله» على رايات «فتح» في تظاهرة دعم الشرعية الفلسطينية في رام الله ، أحد التوجهات التي تعكس محاولات تبدو مثابرة تماماً في استخدام هذا الشعار بصورة سياسية مباشرة، وفي صلب التوظيف السياسي للديني عن غير وجه حق، ولا مبرر، وعن حالة مزاودة سياسية تنافسية ليس هنا مكانها، وليس هذا هو موقعها، ولا تخدم «الديني» من جهة، كما لا تخدم الهدف السياسي من جهة أخرى.
لا أتحدث بطبيعة الحال عن قدسية الشعار عند المسلمين وعند المؤمنين، ولا أتحدث عن أن هذا الشعار بمحتواه الإيماني المجرّد لا يجوز أن يُقال أو يُرفع في تظاهرات أو اجتماعات شعبية، أو حتى احتجاجات من أي نوع كانت، وإنما أتحدث عن رفع هذا الشعار على راية الحركة.
رفع هذا الشعار على رايات حركة فتح مهما كان، وفي كل الأحوال ومطلقها، ومن زاوية الذين تبنّوا رفعه وشجعوا على ذلك كان يريد أن يوصل رسالة مفادها أن الإسلام كدين ليس حكراً على الذين يحاولون توظيفه سياسياً من فصائل «الإسلام السياسي» وأعوانهم، وإنما هو كدين (أي الدين الإسلامي) دين غالبية المجتمع، ومن ضمن هذه الغالبية حركة شعبية كبيرة كحركة «فتح»، وإن حركة فتح باعتبارها كذلك «تحاول» أن تنتزع من فصائل «الإسلام السياسي» احتكار التوظيف السياسي للدين الإسلامي.
باختصار فإن الذين يقفون وراء هذا التوجه، سواء كانوا بعض القطاعات الشابة في الحركة، أو بعض الرموز القيادية فيها، إنما يريدون منافسة حركة حماس وحركة الجهاد وبعض الأوساط التي تؤيد الحركتين لأسباب «دينية» و»سحب» البساط من تحت أرجلهم.
إليكم كيف أرى الخطأ الكبير والفادح في مثل هذه الآراء، وكيف أن هذه الآراء بالذات تلحق بالحركة أكبر وأخطر الأضرار.
بالرجوع إلى سنوات ما قبل تأسيس حركة عملاقة وطنياً كحركة «فتح» فقد تأسست في خضم حوارات جادة ومسؤولة حول مفهوم الوطنية الفلسطينية، وحول ضرورة أن تجمع هذه الوطنية في بوتقتها كل القيادات بما فيها «الإسلامية» والقومية واليسارية، وأن تكون الحركة الجديدة قادرة على صهر هذه التيارات في أيديولوجية واحدة ووحيدة وهي الأيديولوجية الوطنية.
كانت نقطة الارتكاز الفكري الأكبر والأهم والأشمل والأعمق في آن معاً هي الأيديولوجية الوطنية.
منها ومن على أساسها بالذات تعملقت حركة فتح بتعدديتها، وبسعة صدرها، وباحتوائها لتلك الانتماءات السابقة، وإعادة إدماجها في صفوف حركة تحرر وطني تهدف إلى تجنيد أوسع القطاعات داخلها في معركة التحرير الوطني، ومن أجل تحقيق أهداف الشعب في تحرير وطنه، وإقامة دولته الوطنية الديمقراطية على كامل ترابه الوطني.
بهذا المعنى المحدد والدقيق لم تكن «فتح» يمينية ولا يسارية، ولم تكن دينية أو قومية أو شيوعية وإنما كانت الإطار الوطني الأكبر الذي استطاع في ظروف كانت غاية في الصعوبة والتعقيد، وفي محيط اتسم بقليل من التضامن والتعاطف، وبكثير من الخصومة والعداء أن يعيد استنهاض الطاقات الوطنية للشعب، وأن يؤسس لانطلاقة حركة وطنية جديدة، وأن يمهد تاريخياً لصعود الهوية الوطنية وتسيدها منحّياً إلى درجة كبيرة كافة محاولات تجاوز هذه الهوية أو إخراجها من سكة العمل الوطني التحرري لشعب يسعى لتحرير وطنه، واستعادة حقوقه وتجسيد أهدافه الوطنية.
باختصار كانت الوطنية الفلسطينية صناعة حركة فتح كحركة رائدة إلى جانب منظمات وطنية تحررية كفاحية أخرى مثل «الشعبية» و»الديمقراطية» و»التحرير الفلسطينية» و»النضال الشعبي» و»التحرير العربية»، والحركة الشيوعية الفلسطينية كلها والكثير الكثير من المنظمات الوطنية التي عملت إلى جانب فتح في المشروع التحرري الجديد بدور قيادي لفتح وريادي في الدفاع عن هذا المشروع.
هذا الإنجاز التاريخي هو أساساً الصورة الأكثر بهاءً في تاريخ الحركة، وتاريخ فصائل العمل الوطني كلها، وهي الصورة الأكثر إشراقاً على مدى أكثر من ستة عقود من الكفاح الوطني، الذي هو أكثر ما يشرّف الحركة الوطنية، وهو أكثر ما يدعو للاعتزاز بها والافتخار بدورها. هذا كله أولاً.
أمّا ثانياً، فإن أكبر دليل على ذلك هو أن الحركات «الإسلامية» وجدت قبل حركة «فتح»، وقبل الجزء الأعظم من فصائل العمل الوطني الفلسطيني وبعشرات السنين، وكان لدى هذه الحركات «الإسلامية» كل الإمكانيات لتبادر إلى معركة التحرير ولكنها لم تفعل، بل وأكثر من ذلك عملت وبكل الوسائل، وبالتعاون مع بعض الأنظمة وتحالفت معها ضدّ الحركة الوطنية الفلسطينية الجديدة التي تحملت حركة فتح شرف قيادتها.
عند درجة معينة من تطور مسار حركة التحرر الوطني بقيت الحركات «الإسلامية» أسيرة العمل الدعوي والاجتماعي، وتابعت «كفاحها» «الوطني» من موقع العداء والخصومة للحركة الوطنية، وصولاً إلى مهادنة الاحتلال نفسه، بهدف «التمكن والتمكين» للتصدي للحركة الوطنية وكبديل عنها.
استثمرت الحركات «الإسلامية» في صراع الحركة الوطنية مع الاحتلال، ومع بعض الأنظمة العربية في مراحل معينة للوصول إلى «التمكن والتمكين» لدخولها (أي الحركات الإسلامية) على خط المنافسة مع الحركة الوطنية من موقع الموازاة والبديل، وليس من موقع الشراكة الوطنية والأمثلة أكثر من أن تعدّ أو تحصى على هذا الصعيد.
ما غاب عن ذهن أصحاب رفع الشعار المشار إليه على رايات حركة «فتح» أن الذي حصل في الواقع هو التحاق أو محاولة التحاق الحركات «الإسلامية» بالحركة الوطنية وببرامجها وأدواتها الكفاحية، وهو أمر يعكس مدى عمق وأصالة فكرة الوطنية الفلسطينية من جهة، ومدى استحالة أن تتمكن الحركات «الإسلامية» أو تمكّن دون أن تمر بالممر الوطني الإجباري وهو ممر مقارعة المحتل والصدام معه، وليس الاحتماء به والتحالف الخفيّ مع أدواته وأهدافه.
وبهذا المعنى فإن «فتح» لا يجوز لها إلّا أن تشعر بالنشوة الوطنية وهي ترى تياراً قوياً كجماعة «الإخوان المسلمين» وهو يلتحق بالركب الوطني بصرف النظر عن الأهداف الخاصة الكامنة في برامج ومخططات الإخوان من هذا الالتحاق.
ثالثاً، في نظري إن المساومة على الأيديولوجية الوطنية لصالح «إلحاقها» بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بوعي أو بغيره، لأسباب آنية هنا أو هناك، تحت هذا القدر أو ذاك. من ضغط اللحظة السياسية.. إن هذه المساومة ليست شرعية ولا مشروعة، وهي لحظة انكسار مؤلمة لمسارنا الكفاحي، وهي تراجع خطير في لحظة خطيرة وحساسة، بل في لحظة مريضة.
عشرات ومئات آلاف الذين التحقوا بحركة فتح وفي كل صفوف الحركة الوطنية هم إما من المسلمين أو المؤمنين، ومئات الآلاف الذين وقفوا مع «فتح» ومع الحركة الوطنية الفلسطينية مازالوا على إسلامهم وعلى إيمانهم، ولم يكن التحاقهم بالحركة الوطنية الفلسطينية بدافع الإسلام من عدمه، أو الإيمان من عدمه، وإنما بدافع الدفاع عن الوطن والهوية والحقوق والأهداف.
وحتى الآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف الذين يؤيدون الحركات «الإسلامية» الآن فإنهم لا يؤيدونها بسبب هذا الشعار الديني أو ذاك حتى ولو أن جزءاً منهم كذلك.
الخلاف في الساحة الفلسطينية ليس له علاقة من قريب أو بعيد بهذا كله، بل وأكثر من ذلك فإن الخلاف من الناحية الجوهرية هو خلاف على الوطنية الفلسطينية، وعلى الهوية الوطنية، وعلى المسار الكفاحي وعلى التاريخ الكفاحي وليس على الشعارات «الدينية» ومدى القدرة على توظيفها سياسياً.
رابعاً وأخيراً، يبدو أن هناك من يرغب ويعمل على جرّ حركة فتح إلى مواقع لا يجوز، ولا يجدر أن تكون فيها أو حتى تفكر أن تدخلها وتدخل نفسها فيها.
كما يبدو أن هناك من أصبح لا يرى أي أهمية لكل هذه الأخطار التي باتت تحدق بهذه الحركة العملاقة والأصيلة، وأصبح لا يرى في هذه الحركة سوى أداة للتنافس الداخلي، وأصبح مستعداً لأن يوقف الحركة عند هذا المفترق.
لماذا يجب أن تقزّم حركة بهذه العظمة وهذا التاريخ المشرّف عند حدود من هذا النوع وهذا القبيل؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية