فصائل المقاومة ليست في منأى عن الحالة الوطنية، وهي جزء لا يمكنه أن يتجزأ عنها، بل وأكثر من ذلك، وربما أبعد من ذلك فهي طالما لم تقرر بصورة جدية وقاطعة الانخراط في شراكة وطنية حقيقية، وطالما أنها لم تدرك بعد استحالة نجاح «استراتيجية البديل والموازي»، وطالما أنها لم تستوعب بعمق أن بقاءها متحكمة بالقطاع لن يؤدي بها إلى أي شيء سوى تعميق الأزمة الوطنية الشاملة.. فإنها موجودة في صلب هذه الأزمة تماماً كما هي مساهمة في تفاقمها.
المرعب والمخيف هو ان هذه الفصائل وأساساً، وخصوصاً حركة حماس والجهاد الإسلامي (ولو بصورة اقل نسبياً)، ثم بقية الفصائل ذات الصبغة العسكرية «الخالصة»، وبقية الفصائل الأخرى بما في ذلك المحسوبة أو المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية خرجت على الشعب الفلسطيني بخطاب «النصر» الذي تصورت بموجبه ان المعادلة الداخلية قد انقلبت رأساً على عقب، وأن ساعة الانقلاب على الحالة الوطنية الداخلية قد دقت، وان شروط الشراكة الوطنية، قد تغيرت بالكامل، وان عنوان المرحلة الجديدة وشعارها (كان زمان وجبر).
اعتقدت هذه الفصائل وما زالت تعتقد أن التأييد الجارف ـ أو هكذا كان يبدو الأمر ـ لتدخلها العسكري قد منحها «التفويض» الكافي للانقلاب السياسي على شروط الشراكة الوطنية، وأن فرض شروطها «الجديدة» على هذه الشراكة بات في متناول كلتا اليدين.
هذا الاعتقاد هو اعتقاد خاطئ وواهم ومتسرع ومغامر، وهو ليس سوى قراءة سطحية للواقع.
هناك فرق شاسع ونوعي وكبير بين التأييد و»التفويض»..! وهناك فرق شاسع ونوعي وكبير، أيضاً، بين «التفويض» النابع من العملية الديمقراطية، وبين «التفويض» النابع من الانقلاب على الشروط الوطنية العامة، والمتوافق عليها مبدئياً من قبل الكل الوطني الفلسطيني...، كما أن هناك فرقاً آخر لا يقل أهمية عن هذا كله بين حالة ثورية ناتجة عن تغيرات حقيقية في الميزان المادي على الأرض وبين حالة ثورة ناتجة عن حالة معنوية أو انتصار معنوي يعقب حالة متردية من الإحباطات والانتكاسات المتتالية.
الانتصار المعنوي الكبير الذي حدث كان أساساً وقبل كل شيء بسبب هبّة الشعب الفلسطيني في القدس ثم في الداخل، ثم الضفة ثم في الشتات، ثم على المستوى الشعبي العربي وعلى مستوى العالم كله لاحقاً.
لكن التدخل العسكري ـ هذه المرة تحديداً ـ كان في الحسابات النهائية، وليس بالضرورة في الحسابات الأولية.. تدخلاً مهماً أعطى للنصر المعنوي الفلسطيني الكثير من المظاهر والأبعاد التي أربكت حسابات إسرائيل والولايات المتحدة وفرضت نفسها على المعادلة السياسية تحديداً.
لقد صعدت فصائل المقاومة على الشجرة بسرعة، وسنحتاج إلى وقت والى صبر وحكمة قبل أن نتمكن كشعب فلسطيني، وكمجتمع سياسي ان ننزلها عن هذه الشجرة.
وهذا هو مجرد المظهر الأول لأزمة هذه الفصائل، لأن مسألة البديل والموازي هي خارج نطاق التداول الجاد، أو المناقشة الوطنية، وهي مسألة لن تؤدي بأصحابها سوى إلى التهلكة، وإلى اللعب بوعي أو بغيره في ملعب أعداء الشعب الفلسطيني، والوقوع في أفخاخ منصوبة خصيصاً لهذه الفصائل.
المظهر الآخر للازمة هنا هو ان هذه الفصائل باتت ترى أنها في وضع يمكنها من إرغام إسرائيل على القبول بشروطها ـ أي شروط الفصائل ـ سواء في صفقة التبادل، أو استمرار وقف إطلاق النار أو فك الحصار عن القطاع، أو حتى «منع» إسرائيل من المضي قدماً في مخططات الاقتلاع والتهويد في القدس، وفي أماكن جديدة في الخليل أو نابلس أو بيت لحم أو غيرها.
والحقيقة هنا، أيضاً، أن هذا الاعتقاد والذي نتج من الاعتقاد السابق، وعن المبالغات القصدية التي رافقته هو بدوره، أيضاً، اعتقاد خاطئ ومغامر.
ليس هذا ما تغير في الواقع ولم تتراجع إسرائيل بالمطلق عن مخططاتها في القدس وباقي مدن الضفة، ولم يكن هناك أي شروط لوقف إطلاق النار فيما يتعلق بالحصار وصفقة التبادل.
الذي تغيّر ـ وهو تغيّر مهم على كل حال ـ هو ان إسرائيل فشلت في فرض شروطها على فصائل المقاومة، وهذا أمر مهم فعلاً وهو مكسب سياسي كبير لأنه يؤسس لتغيرات قادمة في المستقبل إذا ما توحدت الساحة الوطنية، وإذا ما أعيدت القضية الوطنية إلى واجهة الأحداث، وإذا ما تحمل المجتمع الدولي مسؤوليته الجادة في البحث عن حل سياسي متوازن قائم على الشرعية الدولية.
الحكومة الإسرائيلية الحالية والتي لا يجمعها جامع حقيقي سوى التخلص من نتنياهو، ومن هيمنة حزب «الليكود» وأعوانه ستكون أكثر فتكاً بالقطاع من حكومة «الليكود»، وستكون «محررة» من اعتبارات نتنياهو الخاصة بالإبقاء على إذكاء الفتنة الداخلية الفلسطينية، والإبقاء على حالة الانقسام، والاكتفاء بسياسة «تقليم الأظافر» لهذه الفصائل. وعليه، ومن على هذا الموقف بالذات فإن «الاحتفاظ» بالقطاع تحت هيمنة هذه الفصائل، ودون غطاء وطني فلسطيني كامل ربما سيكون نقطة ضعف كبيرة في واقع الحال أكثر مما كانت عليه من «نقطة قوة» حسب اعتقاد قادة هذه الفصائل.
بل والأرجح أن نتائج الأخطاء في تقديرات الواقع الإسرائيلي الجديد قد تؤدي إما إلى جر القطاع إلى حروب جديدة لا طائل من ورائها، أو الذهاب إلى حالة انفصال تامة عن الجسد الوطني، والقبول بخطة «الدولة» الفلسطينية في القطاع، والانخراط الفعلي في مشروع إجهاض المشروع الوطني، «محافظة» على المصالح الخاصة وعلى حساب المصالح الوطنية الفلسطينية.
وجه آخر من أوجه أزمة هذه الفصائل ان الانزلاق إلى متاهات البديل أو الموازي، والذهاب إلى اتفاقات انفرادية ـ حماية للذات والمصالح الخاصة ـ سيؤديان حتما إلى تحول هذه الفصائل من فصائل تبحث عن السلطة تحت وابل من دخان المقاومة إلى فصائل تتمسك بالسلطة الخاصة على حساب كامل مشروع «المقاومة»، وعلى حساب المصالح الوطنية الشاملة، وفي كلا الحالتين ستخسر كل شيء، ولن تتمكن من الاحتفاظ حتى بالسلطة الخاصة بها، لأن سلطة كهذه ليست بديلاً عن الحل السياسي، وهي تهجين سياسي قاصر عن اعتماده من قبل المجتمع الدولي والقانون الدولي.
كان بالإمكان مغادرة ساحة البلاغة السياسية، وكان بالإمكان استثمار ما تحقق لهذه الفصائل من مد سياسي، ومن هيبة سياسية ليس باتجاه فرض شروط جديدة على الوحدة الفلسطينية، وإنما باتجاه استخدام هذا كله في الاتجاه المعاكس تماماً، وفي استثمار ما تحقق في الإعداد لمرحلة جديدة قوامها وعمادها هو الوحدة الوطنية، وكانت هذه الفصائل ستكون في أعلى درجات التقدير الوطني، وكانت ستحصل على مكانة حقيقية في النظام السياسي مستحقة وعن جدارة وطنية، وكان بإمكانها أن تساعد الكل الوطني على التعافي الوطني.
السؤال اليوم هو فيما إذا ما زال بالإمكان المسارعة إلى هذا النهج، والإقلاع عن نهج المزايدات والمبالغات والاستعراضات التي لن تجلب لها سوى الدخول في أزمات جديدة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد