أقصد بالمأزق الحالة الوطنية في الظرف الراهن، وخصوصاً بعد «تأجيل» حوارات القاهرة، وبعد تناسل وتكاثر شروط تحقيق الحد المطلوب من وحدة الموقف الفلسطيني في مواجهة استحقاقات المرحلة.
البعد الأول في هذا المأزق ان نتائج الحرب الأخيرة قد تمّ توجيهها «بقدرة قادر» الى الداخل الوطني، بدلاً من ان تتجه الى إسرائيل، وهو الأمر الذي أدى حتى الآن، الى «تأجيل» حوارات القاهرة في مؤشر واضح الى ما يمكن ان يؤدي إليه إخفاق معلن في إنهاء الانقسام، والى قطيعة فعلية ستؤدي بالضرورة، وربما بصورة موضوعية الى تعزيز اتجاه الانفصال، وصولا الى الموافقة الضمنية أولاً، ثم الصريحة ثانياً، ثم ترسيم الانفصال ثالثاً.
وإذا استمر هذا النهج - أي نهج استثمار الحرب في تحسين شروط التموقع دون ان ينتقل الى الانقلاب التام على كامل المعادلة الوطنية فوراً، فإن انقلاب حركة حماس على الشرعية الوطنية في العام ٢٠٠٧ يكون المرحلة الأولى من خطة سياسية مدروسة بعناية في حين ان التحضير لمشروع البديل هو المرحلة الثانية والذي هو مرحلة انتقالية نحو الانفصال، ونحو «إقامة» كنتون سياسي في القطاع كبديل عن مشروع إقامة الدولة الفلسطينية، وبذلك يتضح ان خطة إنهاء وتصفية المشروع الوطني، والحقوق الوطنية الفلسطينية هي خطة مزدوجة قائمة على تعاون «ما» بين المشروع الإسرائيلي في هذه التصفية او بالأحرى خطة التصفية وبين أطماع وطموحات سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة .
لا يوجد أي أهمية على الإطلاق فيما إذا كانت تقاطعات المصالح هنا هي تقاطعات «موضوعية» وليست تقاطعات منسقة او مُتفاهَما عليها، لأن النتيجة في هذه الحالة واحدة.
وبهذا المعنى المحدد والدقيق والواضح اشدّ الوضوح فإن سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة لا تستطيع ان تتهرب من الإجابة عن سؤال واضح ومحدد أيضا وهو: هل إنهاء الانقسام ما زال هدفاً تعملون عليه أم لا؟ وهل الشروط الجديدة التي تتحدثون عنها ستؤدي الى هذا الهدف أم يمكن ان تؤدي الى إنهاء هذا الهدف بدلاً من إنهاء الانقسام؟
بصراحة، فإن أي قراءة لما بين السطور في أطروحات حركة حماس الجديدة ليست مطمئنة على هذا الصعيد، وهناك ما يكفي من المؤشرات ان ثمة اتجاهات قوية داخل الحركة باتت تعد نفسها لمشروع بديل نحو الانفصال الفعلي.
أما البعد الثاني في هذا المأزق فهو موقف القيادة الرسمية والسياسات التي تنتهجها هذه القيادة على هذا الصعيد. فإذا كانت هذه القيادة تعرف وتعي وتدرك المخطط الإسرائيلي، ومن خلفه الموقف الأميركي، والى جانبه من هنا وهناك مواقف عربية رسمية وإقليمية أيضا بهدف الانقضاض على المشروع الوطني، وان احد المداخل الكبرى هو الوضع الداخلي الفلسطيني، وانه ثمة من سيستخدم ويستثمر ويتقاطع، او ربما سينفذ هذا المخطط، وان ترهل واقع منظمة التحرير الفلسطينية، وهشاشتها، وتهميش دورها وتحويلها الى «مؤسسة» من مؤسسات السلطة هو نقطة الضعف الأساسية على كل هذا الصعيد، فماذا تنتظر القيادة الرسمية؟ وما الذي فعلته لقطع الطريق على هذا المخطط؟ وكيف لنا ان نقتنع بأن استمرار الحال على ما هو عليه سيمنع هذا المخطط؟؟ بل ان السؤال الذي لم يعد يحتمل التأجيل هنا هو: لماذا تلوم القيادة كل الطامعين والطامحين. إذا كان الحل هو أساساً بيدها؟؟
ماذا تستطيع ان تفعل سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة لو ان المنظمة في وضع ديمقراطي وفعال، وموجودة في مكانها، وتقوم بدورها، وتتصدر المشهد، وتقود كل الفعاليات السياسية والدبلوماسية والكفاحية، وتجدد شرعية مؤسساتها وتخلق نموذجاً وطنياً كفاحياً وديمقراطياً مقابلاً لنموذج غزة والذي هو حالة من النماذج الأكثر تخلفاً وقمعية وسلطوية على مستوى كامل الإقليم؟؟؟
لا توجد أجوبة مقنعة من قبل القيادة الشرعية والرسمية على كل هذه الأسئلة، وهي لم تتمكن من بناء نموذج ديمقراطي وكفاحي يدرأ أخطار التقاطعات التي اشرنا إليها، او يحافظ على تماسك الحالة الوطنية بالشكل الذي يحمي الحقوق ويجابه المخطط الإسرائيلي نفسه.
ان استمرار حالة «البيات» المؤسسي، واستنكاف القيادة عن إحداث تغيرات كبيرة وجذرية في مسار التعاطي مع الأحداث والتطورات، وفي أساليب الأداء على كل الصعد والمستويات ليس سوى الوجه الآخر من القصور الذي يسهل على الجانب الإسرائيلي المضي قدماً في مخطط التصفية، وفي «إعطاء» كل الطامعين والطامحين الفرصة تلو الأخرى، والمبرر تلو الآخر لاختراق الحالة الوطنية وبعثرة الجهود الوطنية. بل وتمكينهم من شل المشروع الوطني برمته أيضاً.
وعليه فإن القيادة الرسمية والشرعية مطالبة هي أيضاً بالإجابة عن السؤال التالي: إذا كنتم على استعداد لمواجهة مخطط تصفية المشروع الوطني والحقوق الوطنية فهل لديكم استعدادات مقابلة للمراجعة الشاملة لكامل المسار سياسياً؟ وهل انتم جادون في بناء شراكة وطنية مؤسسية وديمقراطية؟، وهل لديكم برامج وخطط عمل حقيقية لإنجاز ذلك؟؟؟
لم يعد بمقدور القيادة الفلسطينية الرسمية والشرعية الإجابة عن هذه الأسئلة واستحقاقاتها بـ«لعم»، ولم يعد مقنعاً هذا المسار البطيء للتعامل مع أحداث ومتغيرات هائلة تحدث أمامنا عالمياً، وإقليمياً، وإسرائيلياً وعلى الصعيد الوطني الشامل.
البعد الثالث في هذا المأزق هو غياب البديل الذي يمثل نقطة التوازن الارتكازية في الحالة الوطنية، والذي يرفض، وبإمكانه ان يرفض الى درجة ان يمنع الانزلاق نحو الانفصال، والعمل على فرض إنهاء الانقسام وإعادة إحياء المشروع الوطني بعد إعادة قراءته في ضوء المتغيرات والاهم من كل ذلك ان يكون هذا البديل هو صمام الأمان الوطني الذي يحافظ على المؤسسة الوطنية، والذي يعمل على تطويرها بصورة دائمة، والذي يدافع عنها بكل قوته وإمكاناته؟. غياب هذا البديل هو عنوان المأزق الأهم، وهو قاعدة الحل وضمانة التغيير.
لا صوت لهذا البديل، والذي دونه على ما يبدو لن تكون هناك وحدة حقيقية، او ضمانات لوحدة راسخة او مرتكزات صلبة لنظام سياسي متماسك.
هل يمكن ان تبادر «فتح» لإدراك خطورة المرحلة وتبدأ بالبحث الجاد عن إيجاد البديل بالتعاون والتنسيق التام مع كل القوى الحية، بما في ذلك في إطار «حماس» و»الجهاد» للخروج من هذا المأزق الخطير..؟؟
الجواب برسم حركة فتح وليس غيرها حتى الآن.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية