طفلته "تالين" لا زالت تنتظر قدومه من النافذة 

خاص: "آلاء" كفنت زوجها "منيب" وشيعته بالورود

"آلاء" كفنت زوجها "منيب" وشيعته بالورود - تعبيرية

"أنا حبةُ القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية، وفي موتي حياةٌ ما .." (محمود درويش)، تستلقي الدمعات على وجنتيها، بهتت ملامحها وانحفر الحزن فيها يبللها طفوانٌ عارم متيبس على جدار قلبها، تطلُ نحو زوجها منيب ممددًا أمامها شهيدًا مسجىً بدمائه لم يرَ توسلات عينيها له أو يسمع صوت أنفاسها، تتكئ على قوافي الصمت، تروي وجع قلبها، آخذة غفوة في حضن الألم تتأمل فرحةً كُسرت، وشريك روح أخذ القلب ورحل.

أخرجت علم فلسطين كانت تحتفظ به تحت وسادتها بينما كانت تتأمله، كانت كلماته لها أول الواصلين إلى أفكارها عندما أهداها العلم: "إذا استشهدت غطيني فيه!"، تقدمت المشيعين تحملُ صندوق قلائدها الذهبية قدمه إليها لحظة عقد رباط قلبهما بحبل دائمٍ وقف الاحتلال الإسرائيلي في منتصفه.

الجميعُ ينظرُ إليها وهي تكفن شريك روحها بعلم فلسطين، ثم ألقت الورود الحمراء على جثمانه، كانت دائمًا تحيي بها مناسباتهما السعيدة، لكنها الآن، تشيع بها فرحتها، انطلق المشيعون وهي لا زالت تنظر إليه بإشارة الوداع التي دائمًا كانت إشارة ترحيبٍ بينهما في كلِ يوم يعود فيه إلى العمل.

"الله يصبرني على فراقه" .. بكلماتٍ من الحمدِ والتسبيح، وعباراتٍ من الصبرِ والثبات، استهلت آلاء العفيفي، أُمُّ الزهرتين (آية وتالين) استرجاع تفاصيل الذكرياتِ والقلب يعتصر ألمًا على رحيلِ زوجها، لُب فؤادها ووالدُ طفلتيها ورُكن بيتها الشهيد منيب أبو مصطفى.

وداع صامت!

بداية القصة، منذ بداية المواجهات والأحداث في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح في مايو/ أيار 2021، وضع منيب قلبه في المسجد الأقصى، في بيته لا تسمع سوى صوت، القنوات الإخبارية، المذياع، المجموعات الإخبارية ، كان يتابعها جميعها في آنٍ واحد ولحظة بلحظة.

ومع كل انتهاكِ للاحتلال يكبر ويردد بصوت مرتفع يرتد من جهات الجدران الأربعة " بالروح بالدم نفديك يا أقصى" .. كان يرفض أن يمس سوء معشوقته "الذهبية" ومسجدها الأقصى.

الاثنين، العاشر من مايو، الساعة الثالثة والنصف عصرًا، رنّ جرس الهاتف المحمول بيد منيب، لم تكن الحرب قد دقت طبولها بعد، أخبره صديقه أنه بانتظاره من أجل الخروج معًا"، لكن في السماء كانت طائرات الاحتلال وهي تأخذ مواقعًا أقرب تثير غبار الخوف في قلب آلاء وكأنَّ هناك عاصفة قادمة، لم تبقِ ذلك حبيس قلبها: "منيب .. ما بعرف حاسة أنه راح يصير حاجة"
توقف منيب عند باب الغرفة مودّعًا زوجته، تسابقت طفلتاه تالين (عامان ونصف) وآية (عام ونصف) على الوصول لحضن والديهن أولاً، فاستقرن فيه دقائق أخرى.
نظر إلى آلاء ولمعت ضحكة في عينيه يستأذنها الخروج: "هيني طالع".. ثم تأمل جدران منزله، الأشجار المحيطة به، كانت عيناه تعانق كل شيء تستقر عليه.
  
عند الساعة السادسة من مغرب اليوم ذاته، أطلقت المقاومة الفلسطينية رشقتها الصاروخية الأولى تجاه البلدات الإسرائيلية، ومن ثم بدأت إسرائيل بشن غاراتٍ جنونية على مناطق متفرقة من قطاع غزة وعلى الحدود معها.

ومن بين تلك المناطق التي قُصفت، منطقة بالقرب من الحدود مع قطاع غزة كان منيب قد ذهب إليها برفقة أصدقائه قُبيل المغرب.

منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي، سيارات الإسعاف من الوصول إلى المنطقة التي قُصفت لانتشال المُصابين أو انقاذ من بقِي حيّا منهم.  

تسربت الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول أسماء من كانوا في المنطقة، وكان اسم  منيب من بين تلك الأسماء.

 في المنزل، العائلة تجتمع على مائدة الإفطار، صوت آذان المغرب يؤذن لهم ببدء تناول طعام الإفطار في اليوم التاسع والعشرين من رمضا، جرسُ اتصال هاتفي يرتج على الطاولة، رد عمها (والد منيب) على المتصل: "يعني خلص بعوض الله!؟" كلمات حملت نصف الإجابة، نبأ وصل إليها قبل أول لقمة طعامها التي تركتها ونزلت لأسفل المنزل.

ضمت قدميها إليها تشدهما بيديها على طرف السرير، خائفة مرتعدة، تشعر أن الدنيا أظلمت في وجهها، تخشى أن تقف عند نقطة النهاية، برحيل منيب وهي التي عاهدته أن يكبرا معًا، كان الخوف يكبلها ويحكم سيطرته على أفكارها، تتمنى أن يأتي خبرٌ يبرد نيران قلبها المستعرة.

صوت قرع الباب، آلاء تخشى فتحه على الحقيقة التي تحاول الهرب منها، أو تأخيرها، لكن الصوت تسلل الخلف: "تعالي يا بنتي افطري"، كان لديها أهم من الطعام.

- بدي أستنى منيب..

 - يا بنتي، ما تعملي بحالك هيك..

- طيب، يا عمي في أي خبر عنه!؟

- هينا بنحاول نعرف وضعه

حالة رمادية بـ 11 يومًا

امتلأ البيت بأسرابٍ من الرجال الذين بدأوا بوضع الكراسي داخل زواياه، وعدد من النساء، كان الجميع يقفُ بمنطقة رمادية، الجميع لا يعرف إن كان سيعزي باستشهاد منيب أم بنجاته وعودته لأهله سالمًا.

مشهدٌ آثار أسئلة آلاء: " ليش بتحططوا كراسي!؟، ليش جبتوهم!؟" تحاول التعلق بقشة أملٍ بخيط رفيع أن منيب سيعدل عن قرار مغادرة الحياة وسيعود إلى قلبها ليغرد كما كان سابقًا: "عنا كراسي بالبيت بتكفينا، أنا بحبش الفأل السيء".

بقيت الكراسي تراوح مكانها طيلة فترة الحرب، كلما تأملتها آلاء، رفعت أكفها صوب السماء راجيةً أن "تستقبل هذه الكراسي المهنئين" عائدةً بشريط الذكريات، لنفس المشهد عندما تقدم منيب لخطبتها، وزفت إليها، ووضعت المقاعد بنفس المكان الذي وضعته فيه الآن.

أمام حالة التوتر القصوى المعلنة في بيت عمها، أناسٌ يأتون، وآخرون يذهبون، وحركات مكوكية، اتصالات مستمرة، تتوعد آلاء منيب وهي تحدث شقيقته: "بس يجي راح أخليه يحكي ليش طول!؟".

 ومنذ تلك اللحظات عاشت العائلة في صراعٍ أفقدهم القدرة على التماسك، فتارةً يُخمّنوا خبر نجاته واعتقاله بحكم وجوده عند السياج الفاصل وتارةً أخرى يعلنون خبر استشهاده.
" استشعرت أن شيئًا ما قد حدث، نخزة تدب في القلب، فقلب المحب يشعر بمن أحبه" .. على ذلك الحال بقيت آلاء وعائلة منيب 11 يومًا يقتاتون أمل نجاة منيب ومن معه وعودتهم ضاحكين مستبشرين بعد انتهاء العدوان.

صمتت قليلًا.. وبتنهيدة مختنقة بالدموع تزيل أقفال الصمت عن صوتها "قبل العيد بأيام، وعدني منيب بأن يجعل هذا العيد مختلفًا، وأقسم أيمانًا عديدة أنه سيقضيه معنا مهما كان مشغولًا، تشاركنا في ترتيب المنزل وتوضيبه، ولم نكن نعلم أن هذه تجهيزات كانت لاستقباله شهيدًا."

لا زالت آلاء تقاوم أوجاعها "منذ زواجنا، لم نعتاد على قضاء العيد معًا، انشغاله في معظم الأوقات كان يحول بيننا وبينه".

الساعة الثانية من فجر يوم الجمعة، الموافق 21 مايو/ أيار أُعلن عن وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل.

عودة منيب
 

بغصةٍ تأكل قلبها، تَحاول آلاء وصف اللحظات الأولى من تلقي الخبر "استيقظت صباحًا، وما زلت أُنكر أي أخبار حول استشهاده، ألبست بناتي ملابس العيد وتزينّا وتعطرنا وجهزنا البيت لاستقبال منيب عائدًا لنحتفل سويًا بالنصر والعيد"

جاءها عمها بخطواتٍ متثاقلة بعد أن وصله الخبر، هذه المرة قرأت آلاء من عينيه إجابة كاملة "لا أعلم حتى هذه اللحظة كيف قادته قدماه بذلك الصبر، حضن حفيدتيه والدمع يتسابق للهروب من حواف عينيه، ثم نظر إلي يضعني أمام الحقيقة التي حاولت الهروب منها: "إيش بدك تسوي بعوض الله يا عمي، بعوض الله".

(آلاء) تكرر السؤال: "يعني استشهدوا؟".

(عمها) يرد بصوت خافت: استشهدوا..

(آلاء) ومنيب مستشهد معهم: شهيد، معهم

تصلبت نظرات آلاء، تجمدت الحروف في حنجرتها، تحاول حبس دموعها في محجريهما قليلاً، تتماسك أمام طفلتيها وعمها: "الحمد لله .. الحمد لله".
مرةً أخرى، نزلت إلى غرفتها، وتكومت على سريرها، تتوارى فيه عن طفلتيها، عندها أذنت لدموعها بالجريان كينبوع أحزان ينزل على خديها بلا توقف، لكن لم يَكُن أمام آلاء خيارًا سوى التماسك والصبر وإخفاء دموعها أمام طفلتيها.

سؤال صعب!
 

بانت ضحكة من آلاء مليئة بالقهر، تخنف صوتها قطراتٌ لا زالت تهرب من عينيها واحدة تلو الأخرى كلما استرجعت اللحظات ذاتها تقف أمام جرحٍ لم يضمد "كنت خائفة أن تفهم طفلتاي، كنت أخشى أن يسألنني: "وين بابا!؟" على سهولة السؤال في يومٍ عادي، أصبح أكثر ما أخشاه وأصعب ما يمكن أن تجيب عليه، فدرجة تعلقهن به كبيرةً، لفرط حنانه بهن، كان يأتي إليهن ويدخل من نافذة الغرفة، وكانت القفزة بداية لعبة "الحرامي والشرطي" التي يلعبها معهن".

أطلقت زفيرًا حارًا لتخفف قليلاً عما ازدحم بداخلها، ثم حركت صوتها مرةً أخرى تستحضر صوة منيب "مع موعد احتفالنا بالعيد عند انتهاء الحرب، أوفى منيب بوعده لي أن "يقضي أول يوم للعيد بيننا"، ووصل موكبه إلى المنزل، أدخلوه بالزغاريد وتكبيرات العيد والتهليل وترتيل آيات النصر".

تمسح آلاء الدموع التي ملأت وجنتيها " لم نستطع رؤية وجهه، كان القصف قد غيّب ملامحه بالكامل، غيّب ضحكته التي اعتدنا عليها، أحضرتُ علم فلسطين مزيّن بالورود، ونفّذت وصيته التي أوصاني إياها، كفّنته بعلم فلسطين ودعوت له الله أن يرزقنا الفردوس بصحبته".

بعد مرورِ قرابة شهرٍ على رحيل الشهيد منيب، لا زالت آلاء تضبط ساعتها على موعد عودته من العمل، تُنكر رحيله، تنتظر عودته، وتناجي الله صبرًا وقوةً على ذلك المُصاب.

فيما لا تكف تالين عن الطلب من أمها استدعاء والدها: "خلي منيب يجي حرامي من الشباك"، مع كل صباحٍ جديد توقظ والدتها وهي تنظر للنافذة تتساءل عن تأخره: "وين بابا!" السؤال الذي تهربت منه شهرًا كاملاً.

منيب الذي زفّته آلاء بورودِ زفافهما، وكفّته بعلمِ بلاده كما أوصاها، صابرةً محتسبة رحيله في سبيل عدالة القضية الفلسطينية.

تُحاول آلاء التعالي على جراحها، تتماسك أمام طفلتيها وتسرد باقي الذكريات التي جمعتها مع منيب بحلوّها ومرّها منذ أن طرق باب منزلها خاطبًا إلى أن ودّعته محمولًا على الأكتاف شهيدًا.

ذكريات وأيام حلوة

استحضرت طيفه بلمعة عينٍ تنكر أن ما سترويه لنا مجرد ذكرى "حين جاء منيب خاطبًا، صليت صلاة استخارة كما نفعل في تلك المواقف، وتوجّهت للنوم، ودعوت الله أن يختار لي الخير".

"شاهدت ليلة قدومه خاطبًا حُلمًا وكأنه إشارة من الله تعالى، مسجدًا كبيرًا خلف منزلنا تعلوه المآذن، وراحة كبيرة داخل قلبي، توكلت على الله ووافقت"."

تُغمض عينها، تقسو عليها الذكريات، تتمنى لو أنها حُلم تخشى أن تُكمله: "منيب، كان خلوقًا، حنونًا، ملتزمًا، بشوشًا، سندًا حقيقيًا في كل أمور الحياة، سمعته طيّبة وطاهرة، لم أرَ منه إلا الخير".

تحضرنا تالين  لتمسح الدمع عن عين أمها، وتربت على كتفها وتطمئنها " بابا بالجنة يا ماما، ما تعيطي، انا موجود وبحبك".

تحتضن طفلتها، والنار تضرم في قلبها، "منيب كان شديد التعلق في تالين وآية، كان يحرم نفسه من أجل أن يلبّي لهم مطالبهم" تعلق.

تتحسس شعر طفلتها، وتقلب صفحة أخرى "تالين قبل أيام من استشهاده، طلبت قالب جاتوه (كيك) أشبه بالذي تشاهده على هاتفي المحمول، كنا في نهاية شهر رمضان ، ولم يكن متبقي في جيب منيب سوى 20 شيكلا وما تبقى من راتبه حرص على أن يحافظ عليه من أجل مسؤوليات العيد ورغم صعوبة وضعه المادي أحضرها لها".

مضى منيب لكنه لم يمض من ذاكرتها "كانت حياتنا المعيشية صعبة، بالكاد نوفر قوت شهرنا وأسبوعنا ويومنا، كان الشيء البسيط الذي يقدمه فوق طاقته، في يوم ميلادي الأخير طلب مني ارتداء الملابس، وكان قد أحضر قالب جاتوه وكتب عليه: "إلى قلبي آلاء .. كل عام وأنتِ بألف خير"، عبارة نقشتها على جدار قلبي وغمرني بالفرحة".
 
تقفز صورة منيب أمامها، ألقت على روحه السلام "كان يعرف أني أحب الورد، ودائمًا يوعدني بأننا عندما نذهب ونعيش في بيتٍ لوحدنا، سيزرعه بالورود، خاصة الجوري الحمراء منها، لأنه يعلمُ أني أحبها".

الحزن ينهش صوتها: "بفقدان منيب فقدتُ وعائلته سندًا مُعينًا على نوائب الزمن، لكنني أداري ذلك الألم استبشارًا بشفاعته، وكُلّي فخرًا بأنه أهداني لقب زوجة الشهيد، ونكرر ونؤكد بأننا كلنا فداءً للقضية الفلسطينية"

بعد شهرين من استشهاده أحيت آلاء ذكرى زواجها في الرابع من يوليو/ تموز على قبر منيب، تنظر إلى اسمه المعلق على شاهد من رخام، سيبقى شاهدًا على جريمة إسرائيلية بشعة حرمت طفلتين من والدهم كما حرمت زوجته .. "في حضرة الغياب الموت لا يوجع الموتى، إنما يوجع الأحياء (..) هذا هو العرس الذي لا ينتهي، في ساحة لا تنتهي، وفي ليلة لا تنتهي.. هذا هو العرس الفلسطينيّ، لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلّا شهيدًا أو شريدًا" (محمود درويش)، احتضنت آلاء في ذكرى زواجها شاهدَ الرخام.

المصدر : خاص سوا - شيماء عيد

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد