قد لا يدرك العقل الفلسطيني، وخصوصاً العقل الفصائلي، وعقل الفصائل التي باتت على «قناعة» تامة بالنصر المؤزر، أو النصر «الرباني»، أو ما شاكل من مسميات نتائج الحرب الأخيرة، وما تولد عن هذه القناعة، وما استجّد من مواقف قد تصل بالأمور إلى أعلى درجات الخطورة والمغامرة، بل والمقامرة أيضاً.
ما سمعناه عن نتائج أوّل اجتماع عقد بالرعاية والرغبة المصرية بين وفدي حركة فتح وحركة حماس ، وعن انقلاب العقل الفلسطيني على شروط كل ما أنجز في الهبة الوطنية الأخيرة، وعن افتعال أزمة قد تؤدي إلى ما هو أبعد من الانقسام، وإلى ما هو وراء هذا الانقسام من تدمير ذاتي مؤكد وثابت ومحتوم. ما سمعناه يتجاوز العبث بدرجات ويدعو إلى ما هو أعمق من اليأس والإحباط، وأكثر من أيّ مرحلة سابقة مرت على الوضع الفلسطيني على مدى أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد.
العقل المغامر بات يراهن على تركيع الساحة الفلسطينية وليس إسرائيل، وعلى فرض شروط على الوحدة الفلسطينية إلى حدود الابتزاز والتعجيز، والمغامرة قد لا تتوقف أبداً على تخوم الانفصال أو تعميق الانقسام، لأن الأمور قد تتدحرج إلى ما هو في عِداد الاحتراب والصراع المكشوف بين شطري الوطن، وبين السلطات، وقد يصبح النظام السياسي الفلسطيني كله في مهب الريح، وأمام ما هو أكثر من الارتهان والهوان، وإلى ما هو مقدمات طبيعية لانقسامات اجتماعية ومناطقية، وإلى فوضى سياسية تكون نهايتها إعادة سيطرة الاحتلال على كامل المسألة بعد أن كان قد فقد زمام المبادرة كليا بالتحكم بمصيرها في ضوء ما تحقق من وحدة غير مسبوقة للشعب، وفي ضوء عودة القضية الوطنية من كل جوانبها إلى واجهة العالم، وفي ضوء خسارة إسرائيل المدوية على الصعيد العالمي، بل وفي ضوء خسارتها المباشرة لقضية القدس نفسها.
كل هذا هو مجرد أحد أوجه مغامرة العقل الفلسطيني في القاهرة، وهو ليس سوى الجانب المرجح فقط.
أما الوجه الثاني، وليس مجرد الوجه الآخر فهو أن يتم «التمرد» الوطني الشامل ضد كل المعادلة الحزبية والفصائلية الفلسطينية وبما قد يودي بالحالة الوطنية، ويضعها أمام توجهات جديدة، كنا نعتقد أنها انقرضت واندثرت إلى غير رجعة والتي تتمثل في عودة الوصاية والإلحاق، وفي عودة السيطرة الإقليمية - وربما الدولية أيضاً - على القرار الوطني المستقل.
هذا الجانب هو جانب مرجح إذا لم يكن ذلك «التمرد» وخصوصاً الشبابي منه على وجه الخصوص والتحديد، منظماً ومدروساً، وعقلانياً وواعيا لأخطار المرحلة وشروط اللحظة السياسية، وإذا لم يكن ملماً ومسلحاً بفهم حقيقي لشروط المعادلة الإقليمية والدولية، ولمدى ما يوجد في المجتمع الفلسطيني نفسه من نقاط هشة وضعيفة مقابل المكامن الكبرى لنقاط قوته وإرادته الوطنية الصلبة، واستعداداته العالية للتصدي والصمود والتضحية.
هنا، إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا فإن تلك الدرجة من العقلانية ورجاحة المنطق، ومن التنظيم والعمل المخطط المدروس ليست متوفرة في الواقع، ولا يتوقع أن تتوفر بسهولة في ظل تعقيداتها الخاصة، خصوصا أن «سطوة» ذهنية الفصائل ما زالت كبيرة، والتربية الحزبية والخاصة تتفوق - أو ما زالت - على التربية الوطنية الأعم، كما أن هذه الفصائل لديها الخبرة الكافية لمقاومة التغيير، بل ووأده قبل أن «يستشري» وقبل أن يتمكن من ترسيخ أقدامه.
الوجه، أو أحد الوجوه الأخرى لمغامرة العقل الفلسطيني هو الحسابات المتسرعة لدى من يعتقدون أن «الانتصار» قد تحقق فعلاً على الأرض ومن الزاوية المادية المباشرة، وهو الأمر الذي جعلهم يتصورون أن التغير الهائل الذي أحدثته هبة الشيخ جراح، وهبة القدس على مدار شهور متواصلة، يمكن استثماره في المعادلة الداخلية على غرار نفس الإمكانية من استثماره على مستوى الإقليم والعالم.
هذا التفكير الطفولي المنغلق يمكن أن يؤدي إلى كوارث وطنية. فالانتصار أولا وأخيراً هو انتصار معنوي هائل ولكنه ليس انتصارا مادياً بأي حال ولا يمكن البناء عليه من الآن الا اذا تحول إلى حالة وطنية متماسكة.
أي أن مغامرة العقل الفلسطيني الجديدة تسير بالضبط بعكس منطق الأحداث والتطورات، وفي تناقض يدل على قصور كبير في إدراك بعض البديهيات، وكم هو مؤلم أن يكون هذا العقل لا يزال يعيش في ويدور ويتمحور حول البديهيات، والمؤلم حقاً ألا تقف الأمور عند هذا الحد بحيث لا يتم إدراك بعضها.
الشعب الفلسطيني كان قد هب دفاعاً عن مدينته وقضيته وتوحد في الميدان، وبدأ يجمع من حوله تأييداً عالمياً وإقليميا، وبصورة لم تكن معهودة منذ زمن بعيد، وكان ذلك وتحقق فعلا قبل الصواريخ وقبل الحرب.
لا يجوز للعاملين في الحقل السياسي أن يكونوا على هذه الدرجة من ضعف الذاكرة، ومن القدرة على التناسي وبهذه السرعة.
وفي حين رأت قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني أن دخول الصواريخ على خط المجابهة قد أفاد الهبة وعزز من دورها ومكانتها، حذرت اوساط اخرى من احتمالات أن يكون هذا الدخول مناورة سياسية ستوظف في المعادلة الداخلية، كما حذرت من أن الدخول على الخط ربما يؤدي إلى نتائج عكسية ومدمرة.
الآن وقد انتهت الأمور عند الواقع الذي انتهت إليه، فإن هذا الواقع بالذات هو ما يجعلنا نستنتج أن «توظيف» المقاومة في المعادلة الداخلية سيرتد على أصحابه، وأن هناك ما يكفي من الفرق بين تأييد الجماهير وحماسها للمقاومة في مواجهة اسرائيل وعنصريتها وصلفها وبين استخدام ذلك للمصالح الخاصة تحت وابل من التضليل السياسي والتدليس السياسي.
لا أحد يريد أن تصل فصائل المقاومة إلى هذه النتيجة المحزنة والكارثية لأن بقاء الانقسام، وعدم الاستجابة للمصلحة الوطنية ولوحدة الشعب الفلسطيني لن يعني أبداً الا شيئاً واحداً، وهو الارتهان لإسرائيل وللإقليم في هيئة جيب أو كنتون سياسي تحت السيطرة.
أما في أحسن الأحوال فإن هذا العقل المغامر لن يتمكن من أن يفعل شيئاً سوى جلب المزيد من الحروب والدمار للقطاع في ظروف أقل بكثير من التضامن مع هذه الفصائل مما هو عليه اليوم.
باختصار: توظيف «الانتصار» في المعادلة الداخلية هو وصفة مضمونة للارتهان أو استمرار الحروب دون أي طائل حقيقي، والله من وراء القصد.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية