النسخة الجديدة من حوار الفصائل في القاهرة، تنطوي على أهمية خاصة من حيث الملفات المطروحة أمامها، ولكنها تحظى بتجاهل من قبل المجتمع الفلسطيني عموماً بالرغم من أن الاتفاق بين الفصائل يشكل استحقاقاً تاريخياً. الجماهير التي خرجت عن بكرة أبيها خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على القدس والشيخ جرّاح، واستدعى تدخلاً متميزاً وفاعلاً من قبل فصائل المقاومة في غزة ، أثبتت أنها اكثر تقدماً ووعياً من قياداتها السياسية. كان هذا المشهد الوحدوي لكل الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، قد تكرر مراراً، وكانت محطته الأولى في « يوم الأرض » العام 1976.
المشهد الراهن مختلف من حيث عمقه ومن حيث دلالاته السياسية والتاريخية، وانعكاساته اللاحقة على البرامج، والخيارات الوطنية. من غير الممكن، الآن، الفصل بين برامج تسعى لتحقيق سلام يقوم على أساس رؤية الدولتين، وقرارات الأمم المتحدة بهذا الخصوص، بما انه برنامج يعكس مصالح الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1967 أساساً بينما الفلسطينيون في أراضي العام 1948، يناضلون من اجل إفشال الأسرلة، وتحقيق المساواة. حين تمضي إسرائيل في مواصلة سياسة الاحتلال، و»الأبرتهايد» التي تطبق على كل الشعب الفلسطيني، فإنها تكون بذلك قد فرضت تغييراً جوهرياً على البرامج والتطلعات، التي أصبحت واحدة بالنسبة للكل الفلسطيني.
إسرائيل تنحدر من اليمين إلى اليمين المتطرف، واليمين الديني المتطرف، ولا يبدو في الأفق أن ثمة إمكانية، لإنجاح مسار تفاوضي ينتهي بسلام على أساس رؤية الدولتين، بما في ذلك القدس واللاجئون.
لقد تأخر المجتمع الدولي كثيراً، حين تعامل مع الصراع من خلال إدارته وليس حله، ما أتاح لليمين الإسرائيلي سنوات طويلة استغلها في تقويض أسس وممكنات إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، والتواصل جغرافياً.
من المؤكد أن المجتمعين في القاهرة، لا يجتمعون لمناقشة هذه الفرضية السياسية، بالرغم من ان عديد الفصائل ستقدم خطاباً محكوماً بهذه الفرضية، لكن المناخ العام، لا يزال يطلب من هؤلاء التماثل مع المناخ الدولي، وفريق كبير فلسطيني، يلتزم بمسار المفاوضات ورؤية الدولتين.
لقد دخل المشهد الصراعي مع الاحتلال مرحلة جديدة بعد العدوان الأخير لا يمكن لما بعدها ان يكون مثلما كان قبلها، ولكن أيضاً مصر في هذه المرحلة تتحرك من مركز مختلف وبإمكانيات أقوى وأكثر تأثيراً ونشاطية مما عهدناه سابقا، سواء من حيث موقفها الداعم بوضوح للشعب الفلسطيني، أو من حيث كونها تحمل ما يمكن اعتباره تفويضاً دولياً وإقليمياً، يدعم مركزية دورها.
نقصد من ذلك ان مصر أصبحت تملك قوة كبيرة من التأثير والقدرة على ممارسة الضغط على الأطراف الفلسطينية وأيضاً على طرفي الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. قد يكون هذا التوصيف للدور المصري، مدعاة للتفاؤل بإمكانية أن تنتهي اجتماعات القاهرة هذه المرة الى اختراق قوى ومهم على صعيد العلاقات الفلسطينية الداخلية، ولكن مهلاً، حتى لا تحمل الأمور أكثر مما تحتمل.
الملفات المطروحة كثيرة أمام الفصائل، فعدا ملف تبادل الأسرى الذي تديره مصر مع حركة حماس على نحو حصري تقريباً، فثمة ملف التهدئة وملف إعادة الإعمار، والملف السياسي، وملف المصالحة. ثمة عقبات بالتأكيد، لعل أهمها غياب الشريك الإسرائيلي وغياب الثقة بهذا الشريك، ذلك أن الأمور غير مستقرة، وغير واضحة مآلات الصراع بين حكومة نتنياهو، وخصومه في ائتلاف التغيير.
في كل الأحوال، إسرائيل مقبلة على خيارات انتخابات خامسة، فقد ينجح نتنياهو خلال الأيام القليلة المتبقية من إفشال حكومة التغيير، وإن نجحت في تجاوز ألاعيب نتنياهو، فإنها تحتوي على كل عوامل الفشل في الاستمرار حتى لبضعة أشهر.
غير أن هذه ليست العقبة الوحيدة أمام إمكانية تحقيق اختراق حقيقي مقنع، في التفاهم على بقية الملفات، بين الفصائل الفلسطينية. في الواقع فإن علينا مغادرة الخطاب السابق الذي كان يسبق ويرافق الحوارات، سواء بين حركتي فتح وحماس أو الشاملة بمشاركة كافة الفصائل، التي تواصل دورها كشاهد زور. الحوار يتم بين «فتح» و»حماس»، قبل ان يصل ممثلو الفصائل الأخرى وما يتم الاتفاق عليه، ستصادق عليه الفصائل، إن كان ذلك بسبب ضعف فعاليتها، أو كان ذلك بسبب الرغبة في تسهيل الأمور.
أقصد بالخطاب السابق، والذي لا يزال البعض يطالب به، وهو الخطاب الصحيح والأفضل، لكنه خطاب يفتقد للواقعية حين يعتمد لغة إعادة بناء منظمة التحرير ومؤسساتها، وإقامة شراكة وطنية من خلال صناديق الاقتراع، وتشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الجميع.
اعتماد هذا الخطاب في مخاطبة الفصائل، من شأنه أن يؤدي إلى الإحباط لأن عوامل وروافع تحقيق مثل هذا الخطاب تعترضها وقائع على الأرض ورؤى استراتيجية لها علاقة بمستقبل المنظمة، والمؤسسات الوطنية صاحبة القرار. حركة فتح، قادت السياسة والمؤسسة الفلسطينية خلال عقود طويلة، بل منذ اندلاع الثورة الفلسطينية، ليس فقط لأنها صاحبة الطلقة الأولى بل لأنها حركة الشعب الفلسطيني التي تعكس وتضم كل تلاوينه الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية. لم تواجه حركة فتح خلال كل تلك العقود منافسة حقيقية او مزاحمة من أي فصيل، حتى حين اعترضت معظم الفصائل على اتفاقية أوسلو.
اليوم، الأوضاع مختلفة، فثمة حركة حماس التي تحوز على قوة حقيقية شعبية وكفاحية، وتواصل تقدمها، وبالتالي تشكل منافساً حقيقياً لحركة فتح، في حال أتيحت الفرصة لانخراطها في النظام السياسي الفلسطيني، على أساس شراكة حقيقية ومن خلال صناديق الاقتراع. كان ذلك عائقاً حقيقياً قبل العدوان الأخير، وهو الآن عائق كبير، بعد أن رسخت «حماس» دورها على المستويات الإقليمية والدولية، وثمة قوى ودول في الإقليم وعلى المستوى الدولي، تحذر من إمكانية ان تسيطر «حماس» على الضفة الغربية.
في قراءة هذا العامل، فإن حماس قوية ومتماسكة، لكن حركة فتح هي الأخرى لا تزال تحظى بقوة كبيرة، ومشكلتها فقط تكمن في تفككها وفي حال تجاوزت هذا التفكك فإنها ستظل القوة الأكبر في الساحة الفلسطينية. غير ذلك فإنني أتوقع من اجتماعات القاهرة، توافقات شكلانية، لا تذهب إلى عمق المصالحة المطلوبة.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية