لم تعد مقولة (الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية) صالحة لزماننا، بل إن الخلاف في الرأي يصبح هو القضية ذاتها، وهذا ليس كلاماً مرسلاً، ولا افتراض شخصي، إنما هو مسألة تثيرها عشرات النماذج والحالات من المواقف الواقعية في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية والأيديولوجية التي نعيشها اليوم، حيث نرى كل خلاف في وجهات النظر – حتى لو كان تافهاً - يتحول إلى "عراك"، ثم سرعان ما يتطور العراك إلى معركة كبيرة، يختلط فيها الحابل بالنابل، ويشترك فيها من له علاقة بأطرافها ومن لا ناقة له فيها ولا جمل، ويفتي في شأنها من له علم بأصلها وفصلها ومن لا يفهم الفارق بين الألف وكوز الذرة، وتظل كرة الخلاف تتدحرج وتكتسب المزيد من السرعة بعجلة القصور الذاتي، حتى تصبح عصيّة على المواجهة، وعصيّة على العلاج.


الأمر ذاته نجده في مختلف المجالات، ورغم اختلاف هذه المجالات واختلاف الأسباب، فإن القاسم المشترك بينها جميعاً، والذي يؤدى إلى تحول كل خلاف إلى عداء مستحكم، هو أننا ما نزال نعيش تحت وطأة الأصنام التي نزرعها في رؤوسنا ثم لا نجد سبيلاً إلى مواجهتها بالواقع، فبعد غياب الشفافية والمصارحة بالحقائق واحتكار صنع واتخاذ القرار، واستنكاف مشاركة الآخرين بوجهات نظرهم في الشأن العام، واستسهال أساليب الوصاية، وتصور حل المشاكل بقرارات فوقية، كلها آفات جربناها قروناً طويلة ولم نحصد من ورائها إلا الهزائم والخيبات.


فمتى نتعلم أن الحوار، بمعناه الحقيقي، لا يلغي وجود خلافات في أي مجتمع من المجتمعات، لكنه هو الصيغة الأقدر على حل هذه التناقضات بصورة سلمية، الأمر الذي يعني القدرة على معالجة معظم الخلافات في مهدها وعدم تحولها إلى عداوات مستحكمة تجعل كل أطراف المجتمع مكشوفة، يتسبب أدنى اقتراب منها بآلام يصعب حتى وصفها.


يعرف جميعنا أنه لا مفر من وقوع خلافات في حياتنا اليومية، سواء كنا نتحدث عن منازلنا أو أعمالنا أو حتى مع أي كان في حياتنا، فالخلافات سمة الإنسان، ليس ذلك فحسب وإنما الخلاف والخلافات قضية مهمة للإنسان كأهمية الحياة ذاتها، فالخلاف الذي ينتج بسبب "أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله" جزء من طبائع البشر منذ القدم، وقصة ابني آدم عليه السلام دليل على أن الخلاف قد يوقع الحقد والضغينة حتى بين الأخوين من أب واحد.


إننا ما نزال في حاجة إلى مزيد من الوعي والإدراك في ثقافة الاختلاف والحوار، لأننا مكبلون بطباع نرجسية وموروثات اجتماعية تصوّر لكل واحد منّا أنه الأقدر على معرفة الحقيقة وأنه من يحتكر الحقيقة، وما أن يأخذ الواحد منا بطرف من المعرفة حتى يعتقد أنه الأكثر نضجاً وهو يستنكر أن ينتقده الآخر في رأيه، فالمحصلة النهائية تتجسد في قبول ثقافة الاختلاف مع الرأي الآخر، وأيضا لغة التفاهم، على ألا يُكرِه أحدهما الآخر على قبول رأيه بشكل تعسفي، تغيب عنه لغة التعقل والمنطق، إن أي رأي مهما كان، ومهما كانت مكانة صاحبة هو مجرد رأي يحتمل الصواب والخطأ، ولا توجد نظرية ثابتة، فكل الآراء قابلة للنقاش والنقد وكل النظريات قابلة للتغيير، والموضوعات الوحيدة غير القابلة للنقاش والتغيير هي المتعلقة بالقيم الدينية والمعتقدات الروحية.


يجب أن نفهم الثقافة الصحيحة للخلاف في الرأي، وإلا فلا أمل يرجي من إصلاح عيوب أو تصحيح أخطاء أو تقدم أو حتى إبداع، وسنظل كما نحن نغرق أنفسنا في نقاشات بيزنطية وسفسطائية لا طائل من ورائها، وإن بقي حالنا أنك يجب أن تتبنى وجهة نظري كي نبقى أصدقاء، فلا أمل في صداقتنا ولا أمل يرجوه المجتمع من نقاشنا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد