يبدو استغراب البعض أمام موقف السلطة من أن إجراء الانتخابات في البلاد يجب أن يشمل القدس سطحياً، كما لا تبدو أقل سطحية محاولة البعض تقديم هذا الإصرار على أنه تهرب، وكأنه يمكن أن تتم انتخابات دون القدس. والأكثر مراوغة من ذلك هو حرف النقاش وكأن الجوهر الأساس للنضال الوطني الفلسطيني هو إجراء الانتخابات وليس القتال من أجل الحفاظ على الحقوق. لذلك ربما ليس مستغرباً ألا نجد قيادات الكثير من الفصائل في ميدان المواجهة في القدس. هناك من حسم أمره أن الانتخابات تعادل تحرير فلسطين، وأن القتال من أجل تثبيت الحقوق الوطنية في القدس ليس بذات الأهمية. ويمكن استحضار المناكفة الحزبية من باب القول: إن هذا تهرب.. وكان الفوز في الانتخابات سيعني استعادة القدس وربما يافا وحيفا. رغم أن استطلاعات الرأي لم تعط أحداً غير تنظيم فتح الحجم الأكبر حتى اللحظة، إلا أنه يسهل حرف النقاش وتشتيت الانتباه حتى يغدو إجراء الانتخابات دون القدس أمراً ممكناً ويمكن إحراج "فتح" والسلطة فيه. وبالطبع من يفعل ذلك عليه أن يكون مستعداً غداً لإجراء الانتخابات البلدية في شهر تشرين الأول دون القرى والبلدات في الغور، وفي الانتخابات التشريعية القادمة عليه أن يكون مستعداً لإجراء تلك الانتخابات دون مناطق "ج". هكذا يبدو الأمر وإلى ذلك الشكل سيؤول. وربما تتدحرج الكرة إلى أبعد من ذلك.

الخلاصة أن الاحتلال سيواصل ضغطه من أجل تحديد ملامح الكيان السياسي الفلسطيني الذي تُجرى هذه الانتخابات من أجل إدارته. والشيء الذي لم يحققه بالمفاوضات ولا بقوة السلاح سيحققه بالضغط عبر تفاصيل الانتخابات. وكما كان يقول شارون: أعطيهم ما أشاء ويسمونه ما يشاؤون. هكذا ببساطة ستتحول هذه إلى معركة أخرى، معركة لن نكون فيها المبادرين. وفيما يتواصل النضال الوطني على كل الجبهات مع الاحتلال عليه أن يتصاعد فيما يتعلق بالقضايا التي تتطلب ردة فعل أكبر مثل القدس.

ثمة من لا يدرك حقيقة الأمر أو لا يرى الصورة بشكل كامل. المشكلة ليست في أن تجري الانتخابات رغماً عن الاحتلال، لأنه يمكن فعل ذلك بصعوبة وبسهولة، لكن يمكن، فهذا ليس باب القصيد. هذه انتخابات سياسية وإجراء الانتخابات في القدس هو تثبيت للحق الفلسطيني واعتراف بأن القدس الشرقية ليست ضمن دوائر " صفقة القرن " الهندسية، بل هي تتبع السلطة الوطنية الفلسطينية. صحيح أننا لسنا بحاجة لاعتراف الاحتلال بأحقيتنا بالمدينة المقدسة فهذا حق تاريخي، كما أننا رغم مرور أكثر من سبعة عقود على سرقة البلاد لسنا بحاجة لاعترافه بأحقيتنا بيافا وحيفا وصفد والناصرة والمجدل، فهذا حق وطني، ولكن حين يتعلق الأمر بتسوية سياسية وانتخابات قائمة لانتخاب برلمان للسلطة الفلسطينية التي هي نتاج اتفاق تعاقدي، فإن الإقرار بأن من حق سكان القدس المشاركة هو جزء من المطالب الوطنية التي يجب الكفاح من أجلها. أو بديل ذلك لا نفعل انتخابات بهذه الطريقة، بل نختار طريقة أخرى تكون كلها رغماً عن الاحتلال وعن الإقليم وعن العالم. ببساطة القصة ليست صندوق انتخاب، القصة هناك من يريد أن يقنع العالم بأن القدس له، وبأنه لا حقوق سياسية للفلسطينية فيها لأنه لا حقوق وطنية لهم، ونجح في فعل ذلك عبر "صفقة القرن" واعتراف ترامب وبعض الدول الكويكبية حول سياسته، وإذا ما نجح في فرض انتخابات علينا دون القدس (ولو فعلنا ذلك بالتهريب)، فإنه سيقول للعالم: أترون لا حق لهم في القدس وهم يسلمون بذلك. هذا هو جوهر المشكلة.

كل الحقوق الوطنية ثابتة غير قابلة للتصرف، وطول الصراع لن يعني تقادم أي حق. ومهما تعاظمت قوة الاحتلال وضعفت الجبهة العربية الحاضنة بل وخان بعض أطرافها، ومهما تراجع حالنا فإن جزءاً من هذه الحقيقة لن يتغير. يقع في قلب كل ذلك القدس. التي تدور كل "صفقة القرن" حولها. إن الموقف البطولي لشعبنا رفضاً لـ"صفقة القرن" كان في جوهره رفضاً لضمها والاعتراف بها عاصمة للاحتلال. وعليه فإن مواصلة هذا الموقف تقتضي الالتفات إلى حقيقة ما يعنيه أي تصرف آخر. تأسيساً على السابق، فإن القصة ليست مجرد انتخابات على أهمية ذلك، إنما مشروع سياسي يجب أن يصار إلى الاتفاق على معالمه.

القصة ليست انتخابات رغم أننا يجب أن نجيب عن السؤال الكبير: كيف يمكن لنا أن ندير حياتنا السياسية ونتخلص من عبء الانقسام. الانتخابات أفضل الطرق التي نعرفها من أجل إدارة الحياة الديمقراطية ويجب ألا نتنازل عن ذلك، بل علينا أن نسعى من أجل تحقيق الانتخابات وجعلها حقيقة. ثمة حقيقة مرة للأسف أن الانقلاب وأحداث حزيران الدامية في العام 2007 جعلا هذه الانتخابات أمراً صعباً، فلو استمر التعاقب على إجراء الانتخابات لربما كان وضعنا مختلفاً. هذا من الماضي ولكنه مهم مع هذا من أجل أن نفكر في سبل الخروج من المأزق. لأن ثمة شيئاً لا يمكن تجاوزه. علينا أن ننظر للمستقبل حين يتعلق الأمر بالحقوق الوطنية، لا أن ننظر تحت أقدامنا. نحن بحاجة لأكثر من هذا. القدس ليست مجرد صندوق انتخابي، والنضال من أجل تثبيت حقنا وانتزاع يجب أن يتعدى الشعارات الرنانة من خلف المنابر أو المكاتب، بل يجب أن يجد صداه أيضاً ليس في شوارع المدن الخلفية بل في قلب المعركة الحقيقية، أي القدس.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد