من ساحة كنيسة مهد المسيح عليه السلام، انطلقت فعاليات بيت لحم عاصمة الثقافة العربية 2021، وذلك بعد أن كان قد تم تأجيل الفاعلية التي كانت مقررة أن تجري العام الماضي بسبب جائحة « كورونا »، وقد أعلنت انطلاقة عام بيت لحم للثقافة العربية، بمشاركة 14 بلدية من جميع أنحاء العالم في تأكيد واضح على أهمية المدينة، وعلى المكانة العظيمة التي تتمتع بها عالمياً، وعلى حرص العديد من البشر من خارج فلسطين على أن تجري فعاليات بيت لحم الثقافية على أكمل وجه ممكن، بما يعيد الاعتبار للمدينة المثقلة، كما هو حال كل مدن دولة فلسطين، بالآثار السلبية للاحتلال الإسرائيلي.
في حقيقة الأمر قد تبدو بيت لحم مدينة فلسطينية صغيرة، وحتى معزولة بفعل احتواء إسرائيلي غاشم منذ أكثر من خمسين عاماً، لكنها تبقى تثير في نفوس مئات ملايين البشر حضوراً ومعنى، بل ورمزاً ثقافياً - دينياً، يؤكد أولاً مدى التداخل بين التراثين الإسلامي والمسيحي اللذين يشكلان معاً نحو نصف البشر، خاصة إذا ما نظرنا إلى تلك البقعة من الجغرافيا المشبعة بالقداسة والتي تشمل بيت لحم - القدس - الخليل وحتى نابلس ، حيث من النادر أن تجد مكاناً في العالم يجمع بين طياته هذا التراث العظيم. وفي حقيقة الأمر، لا يمكن النظر إلى بيت لحم والقدس، الخليل ونابلس دون أن نلحظ أن ما تحتويه تلك المدن من ثقافة قد شكل وعي وشخصية الفلسطيني، الذي لا يمكنه أن يجد ذاته دون فلسطينيته هذه.
وهنا لا بد لنا أن نستذكر ما مضى من سنوات قليلة، قبل العودة إلى ألفي عام، حين ولد في هذه المدينة نبي التسامح والسلام، حيث سارعت السلطة الفلسطينية، إلى أن تجعل من بيت لحم واحدة من أهم مدنها المفتوحة على العالم الخارجي، حيث رفعت شعار بيت لحم 2000، لتدخلها الألفية الثالثة بوجه مختلف وبمستقبل واعد، دون قيود الاحتلال، وقد سعت السلطة في ذلك العام إلى أن تجعل من بيت لحم مدينة قادرة على استيعاب مليون سائح، لكن بالطبع وقف الاحتلال حائلاً دون ذلك، لأنه يدرك أهمية أن تصبح بيت لحم قبلة للحجيج المسيحي من شتى أرجاء الدنيا، خاصة في أعياد الميلاد من كل عام.
لكن مقابل الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحاول ليل نهار، أن يجعل الفلسطيني دون أم وأب، أو دون عائلة، منقطع الصلة بالمحيط العربي، رغم أن الحقيقة هي غير ذلك، هناك ملايين البشر، الذين يدركون المكانة التي تتمتع بها المدن الفلسطينية لدى البشرية بأسرها، فقد اختارت جامعة الدول العربية القدس أولاً وذلك عام 2009 عاصمة للثقافة العربية، وها هي تختار بيت لحم في العام 2020 عاصمة للثقافة العربية، بعد أن جعلت من القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية.
وكما هو حال العواصم بالنسبة للدول، تكون المدن المختارة عواصم للثقافة العربية طوال العام الذي تختار فيه، حيث تشهد خلال العام مهرجانات واحتفالات ونشاطات ثقافية - فنية متنوعة، عربية شاملة، بما يتبعها من متابعة إعلامية ومن توافد من قبل كل المهتمين بالشأن الثقافي، حيث فيما يخص المدن الفلسطينية تتضاعف الأهمية، لأن إطلاق الفعاليات العربية، يؤكد عروبة القدس وبيت لحم، في مواجهة التهويد والسجن الخاص المتمثل بالعزل عن العالم الخارجي ومنع التواصل الثقافي بين أهل فلسطين ومحيطهم العربي.
جدير بالذكر، بأن الاحتلالات الخارجية كانت دائماً تجد نهاياتها بعد أن تطول بها السنين، من خلال صمود الثقافة الوطنية، وفلسطين أكدت هذه الحقيقة، حين قاومت من الخندق المتقدم الأول، معركة تبديد الهوية بالحفاظ على الثقافة الوطنية، وكثير من الدول والشعوب قد تخسر معارك أو حتى حروباً، بما يصل إلى حد احتلال أرض الدولة كلها، كما هو حال فلسطين اليوم، لكن حفاظ الشعب على ثقافته وهويته، يبقيه عصياً على التلاشي، بما يؤهله للتحرر من نير الاحتلال مهما طال زمانه.
في العام 2009، تحولت احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية إلى رافعة ضد آثار ونتائج حرب إسرائيلية كانت قد شنت على قطاع غزة ، آخر العام 2008، مطلع العام 2009، لتجعل مشاركة غزة في تلك الاحتفالية طوال ذلك العام، رافعة لدرء الإحباط والتخفيف من ثقل نتائج الحرب المدمرة، كذلك لتخفف كثيراً من وطأة الانقسام الذي كان قد وقع قبل ذلك بأقل من عامين، فشهدت كل المدن الفلسطينية، وتجمعات الفلسطينيين في الشتات، وحدة ثقافية لا مثيل لها، منذ انطلاق الفعاليات وحتى انتهاء العام، وربما كان ذلك سبباً في أن تختار جامعة الدول العربية القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية فيما بعد.
جاء الدور اليوم على بيت لحم، لتؤكد مجدداً مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب، وفي حقل الثقافة هناك تحرر من اعتبارات السياسة وحساباتها الآنية والعابرة، وذلك من خلال إرادة فلسطينية حرة ومثابرة لتكريس عروبة بيت لحم، وتأكيد كونها مدينة حضارة وثقافة، وعلى أنها منارة سلام وتسامح عالمي، بانطلاق المهرجانات والنشاطات والتفاعلات مع المحيط العربي، بما يكرس حصناً ثقافياً منيعاً، لا يمكن لاحتلال غاشم أن يتجاوزه، ولا بأي شكل أو حال.
في حقيقة الأمر، إن بيت لحم، رغم أنها ليست عاصمة سياسية، كما هو حال عواصم الدول العربية، إلا أن تراثها وموروثها الثقافي، دفع فلسطين لأن تتقدم بطلب ترشيحها لهذه الصفة منذ العام 2016، وفي الحقيقة إن الدول ترتفع على أكتاف مدنها الرئيسية، وهكذا فإنه يمكن القول: إن فلسطين تشق طريقها إلى عالم المستقبل عبر مدن القدس، نابلس، الخليل، بيت لحم، جنين، غزة، طولكرم، وحتى يافا والناصرة، ولكل منها دورها في تشكيل الثقافة وبناء الدولة، وهي بمجموعها تشكل الهوية الوطنية، وبمجموع تاريخها وتراثها، يتكون التاريخ الفلسطيني، وهكذا فإن إطلاق الروح في كل مدينة فلسطينية يعني بث الحياة في جسد الوطن بكليّته، وكما قال يوماً «هو تشي منه»، وهو يقود حركة التحرر الفيتنامية ضد الاحتلال الأجنبي وضد تقسيم البلاد: الشعب الذي لا يتقن الغناء لا يتقن الفداء، نؤكد نحن أيضاً على أن بيت لحم عاصمة للثقافة العربية، تمثل مناسبة وطنية لا تقتصر على مدينة المهد وحسب، لإطلاق روح الأمل والثقة بالحرية والاستقلال، بل في بلادنا كلها، فلتعمّ إذاً فعاليات بيت لحم في كل أرجاء الوطن الفلسطيني وبين مواطنيه في الشتات، كما كان الحال مع القدس عام 2009، لنؤكد على مسيرة الحرية الوطنية دائماً وفي كل وقت.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد