روى الشاعر الثائر الساخر أحمد فؤاد نجم قصة قصيدة (كلب الست) في كتابه (الفاجومي.. السيرة الذاتية الكاملة) قائلاً: "كنا في أوائل الستينيات، يعني في عز مجد الاشتراكية، وذات صباح طلعت علينا الصحف القومية الثلاث بخبر عجيب بدون تعليق، وكان الخبر يقول : "حفظ التحقيق في قضية أم كلثوم" ويروي نجم حكاية القصة موضحاً:" طلبة معهد التربية كانوا عاملين يوم رياضي مع طلبة الفنون الجميلة بالزمالك – وراء فيلا أم كلثوم- وفي هذا اليوم ذهب بعض الطلاب سيراً على الأقدام ومروا أمام فيلا أم كلثوم، وإذا بكلبها العزيز المدلل ينط من السور ويبقى في الشارع وينشن على أفقر طالب، وهو المدعو إسماعيل خلوصي، ويروح ناطط على كرشه مبعثره بدون سابق معرفة... ذهب الطالب إسماعيل خلوصي إلى نقطة الشرطة وحرر محضراً بالواقعة، وتم تحويله إلى النيابة، ثم القومسيون العام، وإذا المفاجأة تنفجر أمام وكيل النيابة، بعد معرفة شخصية العاضض بأمر الله على أثر مجموعة من المكالمات التليفونية المحمومة اللي بتأمره وبسرعة حفظ التحقيق... ويضطر وكيل النيابة يكتب حيثيات حفظ التحقيق: إنَّ الخدمات التي أدتها أم كلثوم للدولة كفيلة بأن تُعفيها وكلبها من المسؤولية الجنائية". وأضاف نجم إلى أنَّ أكثر ما استفزه في الموضوع هو ما جاء في تقرير جريدة (الجمهورية) وقتها عن الحادثة نقلاً عن الطالب المعضوض قوله: "أنا سعيد لأنَّ اللي عضني كلب أم كلثوم" وكان هذا الاستفزاز سبباً في إبداع قصيدته "كلب الست".
قصيدة (كلب الست) (باللغة العامية المصرية) مطلعها وصف السيدة أم كلثوم "في الزمالك من سنين وفي حمى النيل القديم.. قصر من عصر اليمين مِلْك واحدة من الحريم.. صيتها أعلى من الآذان يسمعوه المسلمين.. ست فاقت على الرجال في المقام والاحترام.." ووصف كلب أم كلثوم الذي تربيه في فيلتها بدلاً من الأبناء وتطلق عليه اسم (فوكس)، فقال : "فوكس دا عقبال أملتك عنده دستة خدامين.. يعني مش موجود في عيلتك شخص زيه يا إسماعين" ووصف الطالب المعضوض إسماعيل، فقال: "واسماعين دا يبقى واحد من الجماعة التعبانين.. اللي داخوا في المعاهد والمدارس من سنين". وذكر في القصيدة بعض تفاصيل حادثة عض الكلب المدلل فوكس للطالب التعبان إسماعيل، فقال: "لمحْة فوكس من الحديد قال دا صيد سهل وحلال.. هوب نط في كرشه دوغري جاب بيجامته لحد ديلها.. إسماعين بدل ما يجري قال يا رجلي رجلي مالها.. بص شاف الدم سايح من عاليها ومن واطيها". وبعد اسبوع من حجز إسماعيل في قسم الشرطة عُرض على النيابة لإجباره على التنازل عن الشكوى ضد كلب الست، فيتنازل مُخلّصاً نفسه من بهدلة السجن، فيختم نجم قصيدته مُعلّقاً: "أنت فين والكلب فين أنت قده يا اسماعين.. طب دا كلب الست يا بني وأنت تطلع ابن مين.. بشرى لأصحاب الديول واللي له أربع رجول.. بشرى لسيادنا البهايم من جمايس أوعجول.. هيص يا كلب الست هيص لك مقامك في البوليس.. بكرة تتولف وزارة للكلاب ياخدوك رئيس".
قصة كلب الست تتكرر في بلاد العربان بأشكال مختلفة، ومرات لا حصر لها، ومن أمثلة تلك القصص ما تناهى إلى سمع كاتب هذه السطور عن حادثة قريبة من قصة كلب الست، وصلته عبر سلسلة من الرواة الثقاة، غير المشكوك في عقلهم أو دينهم أو وطنيتهم، ينتهي مصدرها عند مواطن عادي غلبان، ليس من النخبة الحاكمة أو أتباعها أو المُصفّقين لها، قدّم شكوى ضد مواطن غير عادي، من النخبة الحاكمة والفرقة الناجية، ولكن على خلاف بين الرواة في مكان وزمان وقوع الحادثة، فالاختلاف في المكان دار بين أربع روايات: في إمبراطورية فلسطين العُظمى، ودولة فلسطين الكبرى، والولايات الفلسطينية غير المتحدة، ودولة فلسطين المحتلة. أمّا الاختلاف في الزمان فدار بين أربع روايات أيضاً: العصر ما قبل الحجري، والعصر الحجري القديم، والعصر الحجري الحديث، والعصر الحجري المعاصر، وفي كل الأحوال مكان وزمان وقوع الحادثة لن يُغيّر من الأمر شيئاً، فالعبرة بعموم المعنى المُستفاد من القصة، وليس بخصوص تفاصيل القصة، وعموم المعنى والدرس كامن في جوهر القصتين: كلب الست، وكلب الولاية.
قصة كلب الست بدأت بعضة كلب لمواطن غلبان، من سوء حظه طلع كلب الست أم كلثوم، أمّا قصة كلب الولاية فبدأت بعضة مواطن غير عادي لمواطن عادي، من سوء حظه طلع مواطن من الدرجة الأولى، وصاحب مقام رفيع في الولاية، مُصنّف على النخبة الحاكمة، ومطبوع على جبينه من أهل الفرقة الناجية، ومُمسكٌ بيديه مفاتيح الجنة لمريديه، ومفاتيح النار لمُخالفيه. عضة المواطن غير العادي للمواطن العادي كانت مختلفة عن عضة الكلب شكلاً وإنْ كانت تشبهها مضموناً، فكلاهما سببّا أذىً معنوياً بالشخص المعضوض، واستكمالاً لقصة كلب الولاية، فقد كان سببها بعد العضة، أنَّ المواطن العادي صدّق زعماء الولاية بأنَّ مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون ساري المفعول، وأنَّ حق التقاضي مكفول أمام جميع المواطنين، فقرر أخذ حقه بالقانون عن الإساءة التي وجهها له المواطن درجة أولى أمام الرعية، فقدّم شكوى للمحتسب العام، وهو بمثابة النائب العام في وقتنا الحاضر، وفحوى الشكوى هو الإساءة للمشتكي أمام الرعية، ومعها كل الأدلة الموّثقة التي تثبت حدوث الإساءة، ودفع رسوم الشكوى ووكلّ محامياً لمتابعتها، وبعدها كان من المفترض مرور الشكوى بالإجراءات القانونية الطبيعية؛ ولكنها مرت بإجراءات تسويفية متعمدة لتمويت القضية، ومرَّ أسبوعٌ بعد آخر، وانقضى شهرٌ بعد آخر، حتى مرت شهور ينتقل فيها الملف من مدينة (شمالستان) إلى مدينة (جنوبستان)، وزعموا مرة أنَّ ملف القضية قد ضاع وهناك لجنة تحقيق لمعرفة المسئول عن ضياعه... وهكذا بعد رحلة (كعب داير) عاد الملف إلى المحتسب العام في وزارة الحسبة ليأمر بإغلاق الشكوى وحفظ القضية.
علِمَ المواطن العادي المشتكي فيما بعد أنَّ المواطن غير العادي المُشتكي عليه، قد استخدم نفوذه لدى المسئولين في الولاية، ولا سيما المحتسب العام، والقاضي الأعلى، وشيخ الشيوخ، وكبير العلماء... لإغلاق الملف وحفظ الشكوى، دون الحكم فيها، أو تنازل صاحب الشكوى، أو الصلح بين طرفي القضية. وعلِمَ أنَّ إغلاق الملف جاء خوفاً وطمعاً، خوفاً من عضته المسمومة، التي يمتد أثرها إلى الآخرة بالتفسيق أو التكفير لمن يُخالفه أو يمّسه بالأذى، وطمعاً في سكوته والرغبة في نيل خيري الدينا والآخرة، من صاحب الوزارة السابق، وبطل فتاوى التكفير والتقتيل، وأستاذ خطب التحريض والتشويه.
خلاصة الكلام في قصتي: كلب الست، وكلب الولاية، هو أنَّ عدم تطبيق مبدأ المساواة أمام القانون لكل المواطنين، مُخالفٌ للمنهج الإسلامي، الذي أرساه القرآن الكريم } وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ {، وقوله تعالى في العدل مع الأقرباء } وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى {، وما أرسته السنة النبوية من خلال الحديث النبوي الذي روته أم المؤمنين السيدة عائشة y وسجله الإمام البخاري في صحيحه: "أنَّ أسامة كلّم النبي r في إمرأة، فقال: إنما هلك من كان قبلكم، أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف، والذي نفسي بيده، لو أنَّ فاطمة بنت محمد فعلت ذلك لقطعت يدها". وأنَّ عدم تطبيق مبدأ المساواة أمام القانون هو من دلائل التخلّف ومؤشرات الهزيمة، وأنَّ السعي لتحقيق التقدم في المجتمع والحرص على إنجاز النصر أمام العدو، لا يتم إلا بالأخذ بأسباب التقدم والنصر، وفي مقدمتها تحقيق العدالة والمساواة داخل المجتمع.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية