يبدو حتى الآن أن كل التحذيرات من مغبّة الإقدام على خيار كهذا لم تجد نفعاً. التحذيرات ليست فقط، ولا تقتصر على جهة بعينها، أو مجرد اجتهادات سياسية أو ثقافية، وإنما تكاد تكون شاملة.
المعارضة لقائمة كهذه تتسع دائرتها كل يوم، داخل حركة فتح أساساً، وداخل حركة حماس ـ حتى وإن بأشكال أقل صخباً ـ وفي صفوف معظم، إن لم نقل كل فصائل اليسار أو من هم في حكمه، بالإضافة إلى غالبية ساحقة من المجتمع المدني، وممثلي منظمات تمثيلية في هذا المجتمع، وطيف واسع من المستقلين وأصحاب الأعمال، وأعداد لا تعد ولا تحصى من المواطنين الذين أثبتوا من خلال النسبة العالية للتسجيل لهذه الانتخابات، والتي وصلت إلى حوالى 93%، في سابقة عالمية غير معهودة، أنهم يتعطشون للمشاركة فيها، ومستعدون للانخراط النشط وغير المسبوق في معمعانها.
لو تمعنا في الأمر قليلاً فإننا سنجد، ودون الكثير من العناء أن هذه المعارضة الكاسحة ليست بالصدفة، وأن لها أسبابها العميقة.
ولعل أهم هذه الأسباب وأكثرها جوهرية أن قائمة تشمل على فتح الرسمية، وعلى حركة حماس الرسمية أيضاً، ومهما امتلكت "المعارضة" من إمكانيات وقدرات في هذه المرحلة تحديداً لمواجهتها فإن النتيجة وفق كل التوقعات هي بحكم المحسومة.
أقصد أن بإمكان "فتح وحماس" أن تحسما النتائج وإغلاق القائمة بالكامل إذا ما قررتا ذلك. وإذا كان هذا التقدير مغالياً فإن إمكانيات اختراقه هي إمكانية محدودة للغاية.
بهذا المعنى ستبدو الانتخابات ـ كما كتبنا قبل أكثر من شهرين ـ وكأنها شكلية وغير تنافسية، وليس فرصة جادة للتغيير ولا للتطوير.
وستكرس الانتخابات الانقسام القائم، بوساطة الاقتسام، دون أن يتطور شيء في ماهية النظام السياسي، لا جوهراً ولا مضموناً، ودون أن تشكل الانتخابات التشريعية محطة مفصلية لإعادة بناء وتطوير وترسيخ ديمقراطية هذا النظام.
كما أن من شأن تقدم خيار القائمة الموحدة بين "فتح" و"حماس" أن يهمش المعارضة وأن يبقيها ضمن دائرة "السيطرة" وربما بحسابات دقيقة لكل مقعد، خصوصا أن بإمكان القائمة الموحدة أن "تترك" لهذه المعارضة المقاعد المناسبة للقائمين على هذه القائمة، عبر ترك ثلاثين مقعداً ـ على سبيل المثال ـ للتنافس عليها بين كل القوائم الأخرى، وذلك بوساطة إغلاق القائمة الموحدة عند العدد المناسب أو عند العدد 95 على سبيل المثال أيضاً.
سبب جوهري آخر يفسر هذا الحجم والنطاق الواسع لمعارضة القائمة الموحدة بين "فتح" و"حماس" هو أن "الصفقة" ـ إن تمت ـ وهي على الأغلب ستتم وفق المعطيات القائمة حتى الآن، لن تقتصر على الانتخابات التشريعية وإنما ستمتد لتشمل الانتخابات الرئاسية وكذلك انتخابات المجلس الوطني.
هذا الأمر ـ هو على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة ـ يعني ببساطة أن النظام السياسي الفلسطيني سيكون مرهونا بالتوافق بين الحركتين، وأن إمكانية "انهياره" تبقى واردة عند افتراقهما لأي أسباب، أو في ظروف مستجدة، أو حين تصل الخلافات أو التناقضات وتقفز إلى السقوف القصوى.
ليس هذا فحسب، وإنما تشي هذه القائمة بأن "فتح" قد ضمنت لنفسها منصب الرئيس، وضمنت حماس الدخول إلى المنظمة دون أي "ثمن" سياسي، وتم بالتالي "لفلفة" المراجعات المطلوبة للذهاب إلى أي مرحلة من مراحل التعاون الحاضر واللاحق.
وعليه فإن الاقتسام سيشتمل على المنظمة ومؤسساتها، وعلى المجلس الوطني وكل عضويته، وعلى الحكومة ووزاراتها، وعلى كل مراكز القرار السياسي والاقتصادي في البلد.
وهكذا بالضبط ستبدو المعارضة الحزبية ـ وليس الشعبية بالضرورة ـ رمزية في وجودها وقوتها ودورها ومكانتها. ليس فقط في المجلس التشريعي، وإنما في المنظمة والمجلس الوطني أيضاً، حتى ولو أن نظام "الكوتا" سيبقى معمولاً به إلى هذه الدرجة أو تلك، وبهذا القدر أو ذاك.
وباختصار فإن فلسطين في هذه الحالة سيكون لديها نظام سياسي يسمى في علم السياسة (نظاماً سياسياً مقيد الديمقراطية).
إضافة إلى كل ذلك فإن القائمة الموحدة ستفضي موضوعياً وفي ظل هذا القدر الكبير من المعارضة لها إلى تشرذم حركة فتح، واحتمال أن تكون لها عدة قوائم انتخابية دون أن تتمكن هذه القوائم من اختراق القائمة الموحدة إلا جزئياً وفي أبعد الحدود.
السبب واضح وهو أن حجم القوائم لا يمكن أن يوازي حجم فتح الرسمية مضافا إليها حجم حركة حماس الرسمية، تماما كما أن أي قوائم من خارج حركة حماس، وفي معارضة لها لا يمكن أن يصل إلى حجم حركة حماس الرسمية مضافا لها حجم تصويت حركة فتح الرسمية.
أما على المستوى الشعبي فحدّث ولا حرج.
إذ كيف سيفهم الناس أو يتفهمون كل الخلافات والاختلافات والشتائم والمناكفات والتخوينات والتكفيرات والاتهامات التي استمرت على مدى أكثر من عقد ونصف العقد، والتي تختفي الآن ولأسباب انتخابية وبقدرة قادر دون أي اعتذارات أو مراجعات أو أي شكل من أشكال النقد واستخلاص العبر والدروس، ودون أي مكاشفة أو شفافية هي أكثر من مطلوبة من أجل استعادة ثقة الناس ودعوتهم لدعم وإسناد العملية الانتخابية في شكلها الذي يجري الحديث عنه.
وبهدف فهم دلالات القائمة الموحدة، دعونا نسأل الأسئلة الآتية، ليس انتظاراً لإجابات معينة وإنما لاستخدامها كوسائل إيضاح ليس أكثر.
إذا كانت حركة فتح وحركة حماس على توافق ما حول وحدة العمل السياسي، وحول الكثير من المواقف التي باتت تشكل قاسماً مشتركاً بينهما ـ كما جاء في الرسالة التي أُرسلت إلى الإدارة الأميركية ـ وأن هناك ما يكفي من التفاهمات حول موضوع الرئاسة والمنظمة والحكومة فما هو الدافع للنزول في قائمة موحّدة؟
بإمكان "فتح" و"حماس" الالتزام بهذا التوافق والنزول كل بقائمته، ثم التحالف داخل التشريعي لتسيير هذا التوافق، دون أن نعرض الوضع الفلسطيني لأي أخطار!
وإذا كان ممكناً ومتاحاً التوافق بين فتح وحماس فما المانع من توافق البقية الباقية على قائمة وطنية تعددية وعادلة؟
والسؤال لليسار: هل راجعتم المسار والمسيرة ووصلتم إلى أن من تهون عليه هويته، ومن قبل بالأدوار الملحقة والذيلية لن يتمكن من بناء دوره المستقل في المواسم الانتخابية؟
والسؤال للمستقلين: هل تعتقدون أن غياب الدور كلياً، والنوم في العسل لسنوات وسنوات يمكن أن تعوضه "الهمة" الانتخابية المستحضرة على عجل أو على جناح السرعة؟
والسؤال لمن يحاولون تشكيل قوائم "فتحاوية" خاصة: أيهما أفضل، شرذمة فتح في تنافس معروفة، أو شبه معروفة نتائجه أم تنظيم معارضة فتحاوية من داخلها، وتحويل ومأسسة هذه المعارضة وإجبار فتح الرسمية على الاعتراف بها أسوة بكل ما يجري من تجارب في الأحزاب السياسية الحديثة؟
لم يفت الوقت بعد، وبالإمكان إجراء مراجعات حقيقية بهدف الخروج بالصيغ التي تؤمّن أعلى درجة ممكنة من التماسك الوطني، وأعلى درجة أخرى من التنافسية الديمقراطية، وهذا ما سيتبع تناوله لاحقاً.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية