تُجري حركة المقاومة الإسلامية - حماس في هذه الايام انتخاباتها الداخلية لاختيار قيادتها وعلى كل المستويات الشورية والسياسية والتنظيمية. قد يبدو هذا الخبر عاديا اذا كان متعلقا بأي حزب او جماعة حول العالم، تتمتع بالحرية والاستقلال والاستقرار، ولكن اذا كان الامر متعلقا بحركة مقاومة فلسطينية فالامر يعتبر استثنائيا لاسباب كثيرة، وخاصة تلك الحركات التي تعتبر الاسلام مرجعيتها الايديولوجية. وقبل الخوض في مبررات هذه الاستثنائية، جيد ان نتعرف عن قرب عما يحدث في هذه الانتخابات وما يترتب عليها. فقد استطاعت حركة حماس على مدار سنوات عمرها ان ترتقي بنظام انتخابي، وخاصة في نسخته الاخيرة، يتمتع بقدر كبير من المؤسساتية ويضمن نسبة عالية جدا من الشفافية والنزاهة. تجري انتخابات الحركة في ثلاث اقاليم، غزة والضفة الغربية والخارج، اضافة الى قيادة اسرى الحركة في السجون وبسرية تامّة. وتبدا العملية عادة من القاعدة نحو القمة، في عملية متتابعة، تبدا من العناصر، بناء على معايير محددة بدقة، وصولا الى انتخاب القيادة التنظيمية بمستوياتها المتعددة والقيادة السياسية والشورية، وتنتهي العملية بجمع مخرجات هذه الانتخابات في الاقاليم الثلاث والسجون، لتشكيل قيادة الحركة داخل وخارج فلسطين، فيتشكل المكتب السياسي "اللجنة التنفيذية" ومجلس شورى الحركة العام. وهنا لابد من الاشارة الى ان هذه العملية المعقدة والمركبة تشمل الرجال والنساء على قدم المساواة، حيث يتم تصدير قيادة نسائية في كل المستويات ولكل الملفات. تستغرق العملية في العادة عدة شهور حتى تكتمل ويعلن عن نتائجها واستلام القيادات المنتخبة مناصبهم الجديدة. نحن كابناء لهذه الحركة يملأنا الفخر بهذا النظام الراسخ لتصدير قيادة الحركة للسنوات الاربع القادمة، وكذلك يحدونا التفاؤل والأمل بان حركة وطنية بحجم حماس، عندما تمارس هذه العملية المعقدة، رغم كل التحديات، انها قطعا ستشكل رافعة للعمل الوطني وترسيخ الممارسة الديموقراطية في الفضاء العام وحمايته، وكذلك في التاسيس لدولة فلسطينية حرة وديموقراطية. عوداً على تساؤلنا الاساس، ما هو الاستثنائي فيما تفعله حماس؟


الإستثنائية في ممارسة حماس تتلخص في التالي:


⁃ حرصت حماس على اجراء انتخاباتها بشكل دوري كل اربع سنوات بغض النظر عن الظروف المحيطة بها وخاصة في بعدها الامني، ولَم تتخلف عن ذلك، حتى في فترات التصعيد والحرب واستهداف قيادتها وعناصرها. ولعل التجربة في هذه المرة خير دليل ذلك، حيث تصادفت انتخاباتها الداخلية مع الدعوة للانتخابات الفلسطينية العامّة، والتي طال انتظارها، وبعد نقاش داخلي واسع ومعمق وفي كل الاقاليم وحساب المصالح والمفاسد، كان القرار بأن تمضي الحركة في انتخاباتها الداخلية واختيار قيادتها في وقتها المحدد مسبقا. طبعا هذا التوجه له تبعات كثيرة، من أهمها أن الحركة ستجري انتخاباتها الداخلية في ساحات متعددة ولشهور، في الوقت الذي انخرطت فيه وبكل قوة في التحضير للانتخابات العامة، وشكلت اللجان المختلفة وكلفت المئات من عناصرها للانطلاق في كل مجال وميدان للترتيب لانتخابات عامة حرة ونزيهة، تليق بوطن مثل فلسطين وحركة بحجم حركة حماس، تنهي الانقسام وتحقق الوحدة. قطعاً فإن القيادة الجديدة ستحترم قرار الانخراط في الانتخابات العامة والتحضير لها، وتبني على ما أنجز في هذا المضمار، فهذا قرار المؤسسة وخيارها وليس قرار فرد أو مجموعة أو إقليم فيها.
⁃ حركة حماس حركة تحرر وطني وتعمل تحت احتلال فاشي وشرس في الداخل، وملاحقات من ادوات الاحتلال وداعميه في الخارج، ولذلك اجراء مثل هذه العملية ومشاركة عناصرها الذين يعدون بعشرات الالاف فيها مخاطرة كبيرة جدا، وخاصة في ظل حرص الحركة على عملية شفافة ونزيهة وضمن ضوابط تنظيمية صارمة.
⁃ في ظل المعايير والثقافة المنتشرة في عالمنا العربي، والتي كثيرا ما تستغل الظروف الامنية "المتوترة" لفرض حالة الطوارىء وتبرير التفرد وخنق الحريات وانتهاك حقوق الانسان وفي مقدمتها حقه في التعبير عن رايه، فان اصرار حماس على اجراء هذه العملية، رغم كل المخاطر، هو نموذج يحتذى في منطقتنا من انّ الظروف ليست مبررا بأي حال لاسقاط الممارسة الديموقراطية وسحق الحريات، بل العكس فان هذه الممارسة والتزام دوريتها، حقق الحركة الكثير من المكاسب والايجابيات، ولعل اهمها القضاء على "تقديس الافراد" في العمل التنظيمي وضخ دماء جديدة في عروق التنظيم وافساح المجال للطاقات الشابة للتقدم، وتصحيح المسارات أحياناً اذا حصل تراخي او تراجع او خطأ. وهنا يمكن الاشارة الى ان حماس مقارنة مع كثير من التنظيمات الفلسطينية تتمتع بمعدل تغيير قيادي غير مسبوق، فبعض هذه التنظيمات قيادتها لم تتغير من عقود، كما ان متوسط العمر القيادي في حماس اصغر بكثير من معظم التنظيمات الفلسطينية، والتي يحكمها قيادات تجاوزت اعمارهم السبعين والثمانين ربيعاً.

حركة حماس حركة مقاومة وطنية، ولكن منطلقاتها الايديولوجية اسلامية. وفي كثير من الاحيان تتهم الحركات الاسلامية في منطقتنا وحول العالم، بأنها لا تؤمن بالديموقراطية حقاً، واذا شاركت في أي انتخابات فانها تفعل ذلك فقط للوصول الى السلطة، ومن ثم تنقلب عليها وتمارس "الديكتاتورية الدينية" وهي أسوأ وجوه الديكتاتورية. من ناحية ثانية لا يستطيع اي إنسان موضوعي أن ينكر أن الكثيرين من الاسلاميين وحتى فترة قريبة كانوا يناقشون فكرة الديموقراطية ومدى توافقها مع منهج الاسلام، ولا سيما أن مصدر التشريع الاساس عند المسلمين هو الاسلام، والديموقراطية تعني حكم الشعب، وانه، أي الشعب، هو مصدر السلطات. معظم حركات الاسلام السياسي، وخاصة التي تبنت فكر جَماعَةُ الاخوان المسلمين، حسمت هذه القضية منذ عقود، على اعتبار أنه لا تناقض جوهري بين الديموقراطية والشورى، التي يعتبرها الاسلام اصلا ملزما في منظومة الحكم عند المسلمين، وان الديموقراطية هي شكل متطور ومرن من اشكال ممارسة الامة الاسلامية حقها الاصيل في الشورى ونفي التفرد في الحكم، الذي لم يجلب للامة الاسلامية على مدار تاريخها الا التخلف والدمار والشرذمة والاستباحة من قبل الاعداء، كما أن الدولة الاسلامية هي دولة مدنية ودولة مواطنيها، وأنّه لا دولة "دينية" في الاسلام بالمفهوم الغربي للدولة الدينية "الثيوقراطية" والتي يحكمها رجال الدين، ولَم يعاني المسلمون من مآسي تجربة الدولة الدينية التي عاشها الغرب فِي العصور الوسطى، والتي سلبت الانسان حريته في الاختيار وقدست الحكّام وجعلت الدين على النقيض من العلم والعقل، وعليه فان معظم الحركات الاسلامية في منطقتنا شاركت بفاعلية في الانتخابات في اوطانها وفي مختلف الساحات السياسية والنقابية والبلدية وغيرها.

حماس لم تبدأ ممارسة العمل الديموقراطي بعد تحولها الى جسم سياسي فاعل في الساحة الفلسطينية، بل إنها انتهزت كل فرصة للمشاركة في العملية الديموقراطية من خلال الانتخابات حتى قبل أن تطلق على نفسها اسم "حماس"، فشاركت في الانتخابات الطلابية في الجامعات، والنقابية والبلدية والجمعيات الاهلية، وقدمت نموذجاً في الايجابية والمبادرة واحترام الرأي الاخر، ولم يسجل في تاريخها أن رفضت او إنقلبت على نتائج أي انتخابات شاركت فيها، حتى لو شعرت بالاجحاف أحياناً، ولعل المرونه العالية التي ابدتها في الحوارات الوطنية لتحقيق الوحدة وانهاء الانقسام ودفع العملية الديموقراطية الى الامام وتنازلها عن الشكل الذي تراه مناسباً للنظام الانتخابي، والقبول بالنظام الحالي القائم على النسبية الكاملة، دليل آخر على تقديم المصلحة الوطنية على موقفها الحزبي، رغم ان موقفها الاصلي كانت دوافعه وطنية بحته، وتفضيل نموذج اقدر فنياً على تمثيل الشارع والاقتراب من همومهم الفردية والمناطقية.

انتخابات حماس الداخلية هي انجاز وطني بامتياز، لان حركة بهذا الحجم والتاثير، فان قناعاتها وممارساتها ستنعكس، سلبا وايجابا، على الوطن والمواطن حاضراً ومستقبلاً.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد