بعد أن اعتقدنا واعتقد معنا الكثيرون، بأن العام المنصرم 2020، قد أخذ معه الجائحة التي وسمته ورافقته طوال مكوثه على الكرة الأرضية، ها نحن نعتقد بأن أمر جائحة كورونا لم يكن بمثل تلك البساطة، وأنه ورغم إعلان العديد من الدول عن التوصل لأكثر من لقاح معالج للفيروس المسبب للمرض القاتل، ورغم أنه قد بدئ بالفعل بحقن الملايين من البشر بتلك اللقاحات، إلا أن الجائحة لم تتوقف عن الانتشار، بل وإنها تقدم أكثر من فيروس أشد فتكاً وخطراً من كوفيد 19 الذي تقدمت به في المرحلة الأولى.
ورغم أن البشرية شهدت في السابق العديد من الأوبئة الفتاكة، إلا أن طبيعة اللحظة، التي شهدت ادعاءات تشير إلى أن وراء انتشار الفيروس، دوافع خفية، تقول بوجود حرب اقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم، وبعيداً عن نظرية المؤامرة، فإن ما تحقق من نتائج أو آثار عن ظهور الجائحة، وتتابع فصولها، يؤكد ما أحدثته من تأثيرات على الاقتصاد العالمي، وبالتالي على السياسة الدولية، وعلى قدرة الدول المركزية في صنع تلك السياسات.
أول ما يمكن ملاحظته، بعد أكثر من عام على انتشار الجائحة، هو أنه مقابل إلحاق خسائر في قطاعات اقتصادية معينة، مثل السياحة والترفيه، فإن قطاعات اقتصادية بالمقابل حققت مزيداً من اكتناز الثروة، وبالتحديد يمكن القول، بأن الاقتصاد المرتبط بتكنولوجيا الاتصالات الحديثة قد شهد نمواً، مقابل ترنح ما يمكن وصفه بالاقتصاد التقليدي أو الكلاسيكي.
لقد توقفت تقريباً حركة الطائرات، وتبادل السلع، كذلك حركة الأسواق والمولات، وشركات السياحة، وانخفضت بشكل حاد حركة المرور بين الدول، بما في ذلك حركة الهجرة بين مواطني دول الجنوب والشرق إلى دول الشمال والغرب، بما يعني بأن الدول التي ما زالت تعتمد على الاقتصاد التقليدي، تعرضت لانتكاسات ولمشاكل اقتصادية، لم تنته بعد، بل إن الأمر مرشح للتفاقم، مع ظهور سلالات جديدة من فيروسات الكورونا، خاصة مع دخول فصل الشتاء القارس، والذي تختص به دول الغرب والشمال الباردة، لذا فإنه ليس مفاجئاً لمتابع أن يتوقع أو أن يلاحظ بأن أوروبا وشمال أميركا، هي المناطق الأكثر عرضة خلال هذا الفصل لمزيد من ضحايا «الكورونا» من البشر ومن الاقتصاد.
وها هي الأخبار تتوالى عن مزيد من إجراءات الإغلاق خاصة الحدودي البيني في دول الاتحاد الأوروبي، وكل هذا يعني بأن الحرب الكونية مع سلالات الجائحة قد تنجح نسبياً فيما يخص التوصل لاكتشافات جديدة في ملاحقة الفيروسات الكورونية، إلا أن الآثار أو النتائج الاقتصادية ومن ثم السياسية، ستبلغ مدايات بعيدة، لا أحد يمكنه أن يتكهن اليوم_ بسبب أنه لم يتم القضاء على الجائحة بعد_ شكلها النهائي ولا الصورة النهائية التي ستكون عليها.
لقد دفع ظهور «كورونا» العالم بأسره إلى العالم الافتراضي أكثر، بكل ما يتطلبه من علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة، لدرجة أن اجتماعات الحكومات، ولقاءات قادة الدول باتت عبر برامج الزووم، وحتى اللقاءات الإعلامية، حتى وصل الأمر إلى دفع الناس إلى المكوث في بيوتهم، والتواصل عبر الفضاء الأزرق، حيث تراجعت كثيراً مظاهر الازدحام، والتجمعات البشرية، التي كنا نشهدها داخل المدن في الأسواق والمطارات ومحطات القطارات، وما إلى ذلك، وتراجع التسوق الشخصي لصالح «الديلفري»، أي أن ظهور الجائحة قد دفع المجتمع البشري إلى مزيد من الانخراط في العالم الافتراضي، كبديل عن العالم الواقعي.
وقد لا تمضي بضع سنين حتى تعلن مئات أو آلاف الشركات العملاقة عن إفلاسها، وإغلاقها والتوقف عن إنتاج العديد من السلع التي لم تعد تناسب عالماً اختفت منه مظاهر التجمعات والاكتظاظات البشرية، ولم تعد فيه هناك حاجة كبيرة، كما من قبل لمحلات ومراكز البيع، بما في ذلك المولات والمطاعم وربما حتى السيارات والطائرات والقطارات.
وقد لاحظنا خلال عام أول، لا يبدو أو لا يرجح أن يكون الوحيد أو الأخير، من انتشار «كورونا»، أن تأثيراتها قد وصلت إلى حقل السياسة، إن كان ارتباطاً بالسياسات التي اتُبعت في مواجهتها، حيث انحازت بعض الحكومات للتضحية بأرواح البشر، من أجل عدم توقف حركة الاقتصاد التقليدي، في حين اتبعت بعض الحكومات سياسة مختلفة تمثلت في فرض التباعد الاجتماعي بقيود وإجراءات صارمة، للتخفيف من حجم الضحايا، ولعل فيما حدث في انتخابات الرئاسة الأميركية خير دليل على ما نستنتجه أو نقول به، والولايات المتحدة، إن لم تكن أهم دولة في العالم، فهي واحدة من أهم دوله، وما يحدث فيها من انتخابات رئاسية تلقي بظلالها على العالم كله.
لقد كانت هناك يد للجائحة في تحديد نتيجة تلك الانتخابات، لدرجة أن تحدث نتيجة مفاجئة، خارجة عن مألوف تقليدي، حيث خسر الرئيس المرشح، في سابقة لم تحدث منذ ربع قرن، وكان من أهم أسباب خسارة دونالد ترامب لانتخابات الرئاسة، ما اتبعه من سياسة متخبطة في مواجهة «كورونا»، لأنه انحاز للأثرياء، ولم يتبع سياسة العزل والتباعد الاجتماعي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تبين أن معظم ناخبيه قد اقترعوا عبر مراكز الاقتراع بالانتخاب الشخصي المباشر، في حين اقترع معظم ناخبي المرشح الفائز الرئيس جو بايدن عبر البريد.
وكثير من الاتفاقيات ومنها اتفاقيات «أبراهام» في الشرق الأوسط تراجع زخمها العملي أو الميداني، ارتباطاً بالجائحة، لدرجة أن تبدو معها تلك الاتفاقيات كما لو كانت من العالم المتخيل، ولكل هذا يمكن القول بأن جائحة كورونا قد تحدث «ثورة» عالمية، تهز أركان الاقتصاد التقليدي العالمي، وتغير من ثقافة المجتمع البشري، فتنتقل به من عالم واقعي اعتاد عليه لعالم افتراضي، فيه الكثير من التلازم بين البشر وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة، حيث تحل شركات أو مؤسسات تكنولوجيا الاتصالات في المكانة المؤثرة مكان شركات النفط والغاز، وشركات السيارات والسلع وما إلى ذلك، وما هي إلا بضع سنين حتى يصبح العالم أشبه بفيلم سينمائي، مليء بالإضاءة والأجواء المبهرة، يكون فيه الإنسان هو الممثل والمتفرج في وقت واحد، ولعل في تلازم الانتشار الأسرع لـ «كورونا» في الفصل والأجواء الباردة، ما يشي بأحد ملامح عالم تحولت به «كورونا» إلى عالم أزرق، بقدر ما ينطوي الأفراد على ذواتهم فيه واقعياً، بقدر ما ينفتحون على الآخر عبر أدوات التواصل الحديثة.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد