كانت بداية عام 2020 وإذا ما ألقيت نظرة خاطفة للوراء، خياليّة بالنسبة لي. حيث تمكنت خلالها من الحصول وبعد أكثر من ثلاث سنوات، على تصريح بمغادرة غزّة ودخول الضفة الغربية. كما، ونجحت بالوصول إلى مكتب جمعية "مسلك" في مدينة تل أبيب، حيث قابلت أصدقاء قدامى عرفتهم من بعيد حتى ذلك الحين. نجحت كذلك، للمرة الثانية خلال الـ20 عاما المنصرمة، الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية في رام الله .

كما، وقُبلت بنفس السنة لدورة تدريبية عالمية للمدافعين عن حقوق الإنسان بالعاصمة أمستردام. كان من المقرر أن تبدأ الدورة في شهر نيسان وأن تستمر لمدة ثلاثة أشهر، وأن تساعد المشتركين على تطوير أدوات عملهم وتحسينها. تحمستُ لأنها كانت أيضا فرصة سانحة للتنزّه، في أمستردام خلال فصل الربيع. وعليه، فجددتُ جواز سفري، وحصلت على تأشيرة دخول لأوروبا. لكني لم أتخيل أنّ جائحة كورنا، الشعور المؤقت بالحرية والقدرة على التنقل والسفر ستغدو سريعا مجرد ذكرى بعيدة.

أغلقت إسرائيل الضفة الغربية كما وأحكمت إغلاقها على غزّة، بالذات على ضوء انتشار فيروس كورونا خلال شهر آذار. أغلقت أيضا مصر من جانبها معبر رفح ، فتمّ تأجيل الدورة لشهر أيلول. لكن، وفي ظل الحظر الداخلي وإغلاق معبري رفح وأيرز، مرّت الأيام سريعة وبطيئة بنفس القدر. خلقت الجائحة خوفا بل وهلعا في قلوبنا. لكن رغم هول الصدمة، الألم والمعاناة، رفض الناس الاستسلام وحاولوا جاهدين التأقلم مع واقعهم الجديد. ما زلت أتمنى الوصول لأمستردام، تلك المدينة التي عشقتها من بعيد بالخريف.

بدأت وخلال شهر آب الاستعداد للرحلة، ولكن في تلك الأثناء توقف التنسيق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. وعليه وبطبيعة الحال لم ترِد إمكانية الحصول على تصريح مغادرة في ظلّ الإغلاق الذي تفرضه إسرائيل بشكل مستمر، بالحسبان. وبقي معبر رفح على حاله، مغلقا طوال الوقت تقريبا. تبيّن لي وبعد مشاورات عدة بين المسؤولين عن الدورة التدريبية وبين الوكالة الهولندية، أني فقدت مقعدي لأنني لم أتمكن من مغادرة البلاد.

سمعت خلال الفترة ذاتها وفي إطار عملي، قصص كثيرين ممن علقوا خارج قطاع غزة لفترات طويلة جدا بسبب إغلاق معبر إيرز. لكنّ ساهمت المساعي التي بذلتها منظمة مسلك - "جيشاه" بإرغام إسرائيل على إعادة عشرات العالقين إلى بيوتهم، كما وبددت شعوري بخيبة الأمل الشخصية التي انتابتني حينها.

لكن وللمفارقة، علمتُ وفي نفس اليوم الذي تيقنت فيه أني لن أتمكن من السفر إلى هولندا، أن زوجتي وأحد زملائها الذي يعمل معها أيضا كمهندس في سلطة المياه قد حصلا على منحة دراسية للقب ثان بإدارة الموارد المائية بمعهد مرموق في العاصمة باريس. كانت هذه فرصة ذهبية لهما، لأن الدراسة كانت ستزود كليهما بمعرفة وأدوات تحسن بُنى غزة التحتية المائية. حيث ندرك جميعا أن مياه غزة غير صالحة للشرب بتاتا، وأن دولا لا تعد ولا تحصى تتبرع بملايين الدولارات سنويا من أجل بناء أجهزة تحلية مياه البحر وتكرير مياه الصرف الصحيّ.

لكن، وتحت ذريعة الحفاظ على صحة السكان وحمايتهم من وباء كورونا، استمرت إسرائيل بفرض الإغلاق، بل ومنعت الطلاب الجامعيين من مغادرة قطاع غزة عبر معبر إيرز، مرورا بمعبر ألنبي إلى الأردن ومن ثمة إلى مختلف دول العالم لمواصلة دراستهم. بالمقابل، قررت مصر فتح معبر رفح لعدة أيام، في بداية شهر شباط، لكن تمكن قلة فقط من المغادرة.

فرحتُ عندما سمعتُ وخلال لقائي بالزوم مع طاقم جمعيتنا في تل أبيب، أنّ كثيرين قد حصلوا على وجبة لقاح كورونا الأولى. لكني، تساءلت متى سأخرج وعائلتي وأصدقائي من دائرة الخطر؟ أستغرب من الخطاب الإسرائيلي الداخلي، الذي يعتبر الحق بالرعاية الصحية قيمة عليا. لكنه وبالمقابل يتغير ويتبدل فجأة، عندما يتعلق الأمر بسكّان غزّة هذا طبعا إذا تداول الحوار الإسرائيلي حقنا هذا من الأساس! تتعامل إسرائيل مع هذا الحقّ كورقة مفاوضات، وكأنّ هيمنتها على جوانب حياتنا كلّها دون استثناء - بالضفة وقطاع غزّة - لا تلزمها بمسؤولية سلامتنا الصحية أيضا!

تجرّع العالم كلّه وخلال السنة الأخيرة مرارة الإغلاق وآثاره على النفس، الدخل، والاقتصاد، الصحة والعائلة. بل وفقد أغلبنا، إحساسه بالسيطرة على حياته. لكننا وفي غزة نعيش هذا الشعور منذ عشرات السنين. فمَنْ لم يفقد الأمل مِنا، ينتظر بفارغ الصبر حدوث معجزة. لكن وفي نهاية المطاف، تظل محاسبتكم الذاتية لأنفسكم حول دوركم في معاناتنا، قراركم أنتم كإسرائيليين. أما نحن فسنحدق بالسماء وننتظر.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد