مَن يُتابع شبكات التواصل الاجتماعية يكتشف أمراً خطيراً، وهو شيوع موجة كُره الوطن، ما يؤدي إلى هجرة الشباب، حتى أن كثيرين يُروِّجون بأن الوطن لم يعد مقراً للكفاءات، بل نقطة عبور إجبارية إلى أوطان الإبداعات الأجنبية، وعلى الشباب أن يستعدوا ليركلوا أوطانهم بأقدامهم، حتى أنَّ أحدهم وضع شعاراً يقول: «هاجروا تَصحُّوا»!
أيها الوطن الجميل، اغفر لمن يُجاهرون بكرهك بألسنتهم، هؤلاء وقعوا أسرى مخططٍ خطير، صمَّمه المحتلون غايتُه كُره الوطن، حين حاصروك، أبعدوك، أفقروك، قطعوا حبلَ التواصل بين ماضيك وحاضرك لينزعوك من القلوب، كما نزعوكَ من الكتب.
نعم، قَصَّر آباءُ فلسطين في حق الأبناء، لم يُعلموهم فنَّ عشق الوطن، لم يفتحوا خزائنَ ذكرياتهم، لتغمرهم رائحةُ الزعتر البري، ولتسكنهم رائحةُ الميرمية، والنعناعُ، والريحانُ، ومِسكُ الليل، والسوسنُ، وتمرُ الحناء، لم ينفضوا غبار الزمن عن بساطك المُطرز بلون شقائق النعمان، ولم ينشروا خيوط مِغازل المجدل لتضيءَ بألوانها الزاهية المكان، ولم ينشروا تراثَ أجدادهم المخبوء في خزائنهم، لم يصنعوا لصور الأبطال والمبدعين براويزَ فاتنة، من أشجار الصنوبر، والجوز، والرمان!
لم يذوقوا طعم الزبد البلدي، حين يخرج من سعن البدويات الفاتنات في النقب، ولم يُجربوا قطف البرتقال الذهبي من بساتين يافا وحدائق حيفا، ومزارع الناصرة!
أيها الوطنُ الجميل، لم يقرأ أبناؤك ما خطَّه الأجدادُ في صفحات التاريخ، لم يعرفوا أن بساطَ فلسطين كان يتَّسعُ للعالمين، ففي معاهد فلسطين العلمية تعمَّد المثقفون، وتُوِّجَ السياسيون، ونبغ الفنَّانون، هام بعشق فلسطين طالبو العلوم، ومنتجو الفنون، سكن إشعاعُ حضارتك المستشرقين، سأظلُّ أُردد مراتٍ ومرات ما قالَهُ المستشرقُ الروسي، أغناتي كراتشكوفسكي، ومعه صديقُه الصحافي الروسي، ثيودوروف، حين زارا فلسطين قبل قرنٍ من الزمان، عام 1909، قبل اغتصاب أرضنا، التقى الاثنان بعددٍ من مثقفي فلسطين، من مفكرين وفنَّانين، وأدباء، وشعراء، التقّيا بالمفكر والتربوي، خليل السكاكيني، والشاعر المبدع محمد إسعاف النشاشيبي، والمفكر، محمد روحي الخالدي، والأديب، بندلي الجوزي، والمترجم، خليل بيدس، والأديبة المترجمة كلثوم عودة.
أدهشتْ هذه الفرقةُ الثقافيةُ المستشرقيْنِ فقالا بإعجاب: «تعلمنا الكثير من هذه الأمة العظيمة»!! هذه الأمة العظيمة لم تكن سوى فلسطين!
كذلك سأظلُّ أُكرِّرُ وصفَ وطننا للروائي اليوناني العالمي، نيكوس كازنتاكس، مؤلف أكبر الروايات العالمية انتشاراً، رواية «زوربا» عندما زار فلسطين، ليكتب عن أعياد الميلاد، عام 1926، قال يصفُ طبيعةَ وطنكم: «أريحا تبتسم كواحةٍ، تجد نفسَك أمام بساتين الرمان المُزهرة، وأشجار الموز، والتين، والتوت، محاطة بسياجٍ من أشجار النخيل الطويلة، الشيقة، وينابيع الماء المتفجرة، فترتاحُ عينُك، وفي حيفا ترى الرمانَ، والبرتقال، والليمون، وفي الجنوب، مدينة إبراهيم الخليل القديمة، تشعر بأُلفةٍ وطمأنينة، وفي السامرة والجليل، تبدو الجبالُ أكثرَ وُدَّا وأُلفة»؟
نجحت دولُ العالم في تحويلِ قصائد المدح الوطنية إلى إبداعات، حين عزَّزت مخزون حُب الوطن في نفوس الأبناء، رسَّخت حُب الوطن بمقررات دراسية مُحبَّبة، وليس بموادَّ حشويةٍ، مُنفِّرة، ثم شجعت إبداع الأبناء، واستقطبت الكفاءات وشجعت المواهب، والأهم من كل ما سبق؛ أنها أقامت بناءها على أساس، الحرية، والديموقراطية، والعدل والمساواة!
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية