غاب عن النقاش السابق، في مقالتنا الأخيرة، الإشارة إلى السياسة الصينية والروسية وما لهما من تأثير في المشهد الكوني. من المؤكد أن أي حديث حول التحولات في السياسة الدولية لا بد أن يقف بعمق أمام الدورين الصيني والروسي. وفيما تمّت الإشارة في المقالة السابقة إلى انكماش أميركي محتمل وآخر أوروبي ليس أقل احتمالاً، فإن السياسات الصينية والروسية ستشهد تحولات ستؤثر على مكانة البلدين وموضعهما في المشهد الكوني. إن من شأن الانكماشين الأميركي والأوروبي أن يؤثرا بشكل كبير ليس على خارطة العلاقات الدولية، بل على مكانة وأدوار اللاعبين الآخرين في هذا المشهد. وبقدر ما سيعني هذا من فتور في المشهد وتراجع في اشتباك أبرز لاعبيه، إلا أنه لن يعني بالضرورة تفاعلاً أكبر للاعبين الآخرين. وهنا الإشارة إلى الصين وروسيا. ويجب وضع خط عريض تحت بالضرورة؛ لأنه قد تظهر سياقات جديدة وتطرأ تحولات غير متوقعة تجعل من بروز أدوار وتفاعل لاعبين آخرين ضرورة.
لقد شهدت مراكز القوى في العالم دائماً تحولات كبيرة، وسمحت تلك التحولات بانتقال مركز التفاعل من مكان لآخر. وإن نظرة خاطفة على تاريخ نشوء القوى في العالم عبر التاريخ يكشف لنا عن إيقاع يمكن الاستدلال منه على نمط. وهذا في غير اهتمام هذا المقال. لكن من المهم التمعن في صيرورة الانتقالات في مراكز القوى الدولية، فمركز الحضارة والقوة كان في البداية حول ضفاف «المتوسط» الشرقية والجنوبية. كانت حضارات الشرق في بابل وأرض كنعان ومصر مركز القوة في العالم. الكنعانيون والفينيقيون والأشوريون والفراعنة. كان هذا تعريف القوة في العالم. ثم انتقل مركز القوة إلى الضفاف الشمالية لـ»المتوسط» أي إلى أوروبا. وفي مرحلة جديدة إلى الأطلسي أي إلى أميركا الشمالية. في لحظة معينة كان التفكير ينصب على مستقبل الانزياح في مركز القوة والحضارة. كان اليقين أن ثمة انتقالاً واضحاً نحو الجهة الأخرى من الكون أي نحو الصين. وبقدر ما يعكس هذا توقعات محددة باتجاه محدد، بقدر اتساقه مع ما حدث عبر التاريخ. وهذا يبدو منطقياً لاتساقه أيضاً مع قوة الصين المتصاعدة، خاصة في مجال الصناعة والاقتصاد. ومع هذا فمن المشكوك فيه أن يحدث هذا الانتقال في محور القوى الدولية وفي مركز الحضارة، وهناك جملة أسباب تدعم وجهة النظر هذه.
ربما أول تلك الأسباب أن بكين لا تسعى لتقديم نفسها كقوة هايبر في العالم مثلما سعت واشنطن منذ بدايات القرن العشرين، وأكثر تحديداً بعد الحرب العالمية الثانية. كانت ثمة نزعة أميركية واضحة تجاه صعود أميركا. كانت هذه ذروة الحلم الأميركي بتعبيراته الجماعية وترجمته على صعيد مكانة أميركا بين الدول. لا يبدو أنه يمكن الجزم بأن الصين جاهزة لخوض حروب من أجل فرض هيمنتها مثلما كانت واشنطن جاهزة لفعل ذلك. القوة الاقتصادية لا تعنى مخالب القط، بل هي حفاظ على العلاقات التجارية وتحقيق الرفاه والرخاء للمواطنين. وبالطبع وبالنظر إلى مركّبات الوعي السياسي فيما يخص الصين، يمكن التدليل على غياب تلك النزعات الصقورية في السياسة الصينية، والكشف عن أسبابها التي تتسق مع الغايات التي تتطلع الدولة الصينية إلى تحقيقها.
وعليه، يصعب الجزم؛ لأن ثمة تمدداً صينياً مقابل الانكماشات التي قد تحدث في السياسة الدولية وفي أدوار بعض اللاعبين الكبار فيها. وهذا لن يعني توقف بحث الصين عن توسيع أسواقها وزيادة حصتها من الاقتصاد العالمي، والحفاظ على مكانتها كمصنع لبضائع العالم، وربما الاحتكاك عند الضرورة من أجل الحفاظ على تلك المكانة. هذا سيستمر ويتفاعل ولن يتوقف حتى أمام أي توتر قد يصاحب تمددها. ببساطة لأن هذا جزء من الحفاظ على المكتسبات الذي لا يتم دون السعي إلى تطويرها وتوسيعها. وهذه بحد ذاتها الصورة الأخرى للاستعمار بوجهه الناعم. العلاقات بين الدول ستتبدل مفرداتها وفق سياقات ترجمة مصالح تلك الدول، فلم يعد ثمة حاجة للاشتباك من أجل تحقيق التطلعات الاستعمارية، حيث يمكن تحقيق ذلك بطرق أخرى.
بالنسبة لروسيا، فإن الأمر يبدو مختلفاً قليلاً؛ إذ إن لدى موسكو توجهات واضحة لتمديد النفوذ والهيمنة. ولم يكن التاريخ المعاصر لصراع القوى بعد الحرب العالمية الثانية إلا صراعاً بين واشنطن وموسكو. ورغم حدة الحرب الباردة والمخاطر التي كانت ترافق التوترات التي تنجم عن السعي لتحقيق المصالح، إلا أن موسكو كانت دائماً تبدي حزماً واضحاً في مواجهة الصلف الأميركي. ومع تراجع الاتحاد السوفياتي وتفككه مع انتهاء الحرب الباردة، بات هناك شكوك بمقدرة موسكو على النهوض لتستعيد مكانتها كقوة دولية. إنها الشكوك التي اندثرت مع النزعة الصقورية للرئيس بوتين، ونجاحه في استعادة مكانة روسيا كقوة دولية لها دور فاعل في تحديد مصير الكوكب. حدث بعض التحول ولم تعد روسيا تتراجع كما كان متوقعاً، بل صارت تحرز بعض التقدم في مجالات مختلفة حتى على صعيد القوة. ومع هذا، ليس مؤكداً مثلاً أن تنجح روسيا بملء مكانة واشنطن في حال تراجعت هذه الأخيرة ولم تعد القوة الأولى. طبعاً الأمر لا علاقة له بالرغبة والطموح والتطلعات، بل في القدرة على الحفاظ على تلك المكانة لو تحققت. ومن المؤكد أيضاً أن موسكو مع هذا سترغب في الحفاظ على مكانتها كقوة فاعلة في الكون. وعليه فإن التنافس مع واشنطن سيظل قائماً ولكن دون الحاجة للصراع.
هل هذا عالم بلا صراع؟ لا يبدو الأمر ممكناً مع هذا؛ لأن شكل العلاقات الدولية لا يستقيم دون صراع، ولأن التاريخ ليس إلا تلك القصص عن الحروب. ومع هذا، فإن السمة البارزة للمشهد الدولي الجديد هي تبدل أدوات الصراع وساحات المعارك. إن مثل هذا العالم لن يكون عالماً بلا ضوضاء، لكنه عالم يتوازن فيه الرعب ويصبح التدمير على جانبي النهر ولا يتوقف عند حد، ولا يكون ثمة خاسر مطلق في أي حرب قادمة.
أحد هذه الأشكال الجديدة مثلاً هو ما أنتجته جائحة « كورونا » من سياقات منافسة جديدة على تطوير اللقاح. لاحظوا أن القوى الأربع الكبرى هي من باتت تتحدث عن هدا اللقاح، فمن أوروبا إلى أميركا، إلى روسيا، إلى الصين، يبدو نفس نقاش القوة والصراع الذي أشرنا إليه. ويبدو في المحصلة أن العالم بطريقة أو بأخرى لا يتغيّر.

 

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد