مع الوقت تشهد العلاقات الدولية تحولات وانزياحات بعضها دراماتيكي وبعضها تدريجي تراكمي يفضي إلى تحولات كبرى، ومن المؤكد أن المشهد الكوني الذي نجم عن انتهاء الحرب الباردة وانهيار جدار برلين في العقد الأخير من القرن الماضي ترك العالم في حالة ثبات، ولم يحدث تحول يذكر على موازين القوى أو مواقع التأثير في المحفل الدولي. فقد بقيت واشنطن هي القوة القصوى أو «الهايبر» في العالم، متسيّدة على قوى كبرى عظمي على رأسها روسيا وبعض القوى الأوروبية والصين. وبات واضحاً مع تساقط أول حجر في جدار برلين أن واشنطن باتت في جهة والعالم في جهة أخرى، وبات يصعب الحديث عن تعدد قوى في المشهد الدولي.


ومع هذا ومع أننا دخلنا الألفية الجديدة، صار الحديث يدور عن فرص ظهور عالم متعدد الأقطاب خاصة مع صعود قوة الاتحاد الأوروبي، والحديث عن تطوير سياسة أمنية وخارجية موحدة بعد توقيع اتفاقية ماستريخت وتنامي قوة الصين الاقتصادية والعسكرية، وعودة التطلعات الصقورية مع إمساك بوتين لقبضته على روسيا الصاعدة بعد أزمات التفكك. كانت ثمة فرص لعالم متعدد القوى بعد الانزياح الدراماتيكي من عالم ثنائي القطبية إلى عالم أحادي القطبية. أيضاً كان هذا يحمل نوعاً من التفاؤل المفرط، خاصة أن هناك من اعتقد أن ثمة أسباباً كبيرة يجب أن تقود إلى مثل هذه الاستنتاجات. في جزء منها يكمن التحول الذي شهدته البلدان والقوى التي أشرنا إليها سابقاً، وفي جزء إلى رفض العالم لفكرة الدولة المهيمنة على المشهد العالمي لأنه يعيد العالم إلى مرحلة الإمبراطوريات المطلقة التي تراجعت مع ظهور الدولة الوطنية. وبعبارة أخرى، فإن عالماً أحادي القطبية يعني تراجعاً في وعي البشر السياسي إذا ما قبلوا به، وانحداراً في قيم العلاقات بين الدول، وعليه كان ثمة رفض مبطن و»جيني» في الوعي لدى الأفراد كما لدى الدول لفكرة عالم أحادي القطبية. ومن هنا فإن الحديث عن عالم متعدد الأقطاب كان جزءاً من البحث عن المثاليات المسنود ببعض الشواهد التي تصلح لتعزية الذات ومواساتها. وعليه لم يتم هذا الأمر وتعذر ميلاد العالم الجديد.


ترافق هذا مع التطلعات لإصلاح التنظيم الدولي في الألفية الجديدة، بما يشمل توسيع فكرة عضوية مجلس الأمن، وزيادة عدد الدول أصحاب حق الاقتراع بحيث يتم تمثيل القارات المختلفة في هذا النادي الحصري. وبصرف النظر عن مدى مقدرة بعض الدول التي يمكن لها أن تنضم للنادي على السياسة الدولية، فإن الفكرة كانت تكمن بأن من حق جميع القارات أن تجد لها مكاناً في عربة القيادة. كان الحديث  يدور تحديداً عن تمثيل قارتي أفريقيا وأميركا اللاتينية. وأيضاً مثل هذا الحديث كان مسنوداً بصعود بعض القوى الأفريقية، تحديداً جنوب أفريقيا وتنامي نفوذها وقوتها، والبرازيل في أميركا اللاتينية. كان ثمة ما يكمن أن تستند عليه هذه الأطروحات من هذه الحاجة إلى دمقرطة التنظيم الدولي. ففي الوقت الذي انهارت النظم السلطوية وشهد العالم موجة دمقرطة جديدة، خاصة في قلاع أوروبا الشرقية، فإنه من المعيب أن يظل التنظيم الذي يعبر عن إرادة سكان الكوكب محكوماً بطريقة غير ديمقراطية. كان ثمة اقتراح بإلغاء حق النقض «الفيتو» الذي يعني إعطاء سلطة عليا لخمس دول في مصادرة إرادة قرابة مائة وتسعين دولة، أو بتوسيع عضوية نادي النقض بما يشمل تمثيل أوسع أو البحث عن صيغ تعبر عن حجوم الدول في التصويت كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي. وفي كل الأحوال ولأن التنظيم الدولي هو تعبير ليس عن رغبة دول العالم بل عن ميزان القوى في العالم فقد فشل الأمر.


هذه ليست بمقدمة ولكنها «فرشة» تكشف لنا كيف يتحول العالم وكيف تحدث الانزياحات في هياكله وتراكيبه. في مقالتين سابقتين ومؤسستين لفكرة هذا المقال جزئياً، أشرت إلى الانكماش الأوروبي والانكماش الأميركي. فالقارة التي نجحت في تجاوز عقبات الحرب المدمرة التي كانت مسرحاً لها وكونت تكتلاً اقتصادياً هو الأهم عالمياً، وعملت بجد من أجل إنهاض حالة تكامل اقتصادي ومالي نقلته تدريجياً إلى تعاون أمني وشرطي وعسكري، وجدت نفسها بعد أكثر من ستين عاماً عاجزة عن المضي قدماً في دفع عملية التكامل وفي تحقيق ذاتها كقوة عالمية. لذا فإن هذا الانكماش سيعزز من البقاء على الحالة الراهنة في السياسة الدولية. الأمر وبطريقة مختلفة ينطبق على الانكماش الأميركي. فالولايات المتحدة التي أثارت الشغب في كل مكان في العالم ولم تترك زاوية لم ترق فيها الدماء بغية تحقيق مصالحها، وجدت نفسها وحيدة وبحاجة لإعادة التفكير في جدوى تدخلاتها غير المنطقية. وكما يمكن الملاحظ فإن مثل هذا التفكير رغم ما يمكن قوله عن رعونة ترامب وفجاجة سياسته الخارجية، إلا أنه بدأ مبكراً. فواشنطن باتت تتبع سياسة حرب المقاولات فهي ليست بحاجة لإرسال قوات إلى سورية فثمة من يحارب نيابة عنها دون أن يكون لها تدخل في مجريات ولا تبعات الحرب المدمرة الدائرة. نفس الأمر يمكن سحبه على الحرب في العراق وفي غيرهما من الأماكن.


الآن سيتعزز هذا الانكماش مع حاجة الرئيس الجديد لإعادة الاعتبار للجبهة الداخلية. هل هناك من يسأل إذا كان الشقاق مع ترامب قد انتهي؟ أظن علينا أن نتوقع شيئاً من هذا. ولكن من المؤكد أن المشهد الدولي سيشهد حالة إرباك وعدم استقرار وصعود وهبوط في تدخل وانسحاب الدول، وفي مدى سخونة بعض القضايا وبرودتها؛ لأن ثمة مشهداً آخر يتكون بعد أن تنتهي القوى المختلفة من إعادة تموضعها في خارطة المصالح وعالم الأصدقاء والأعداء. وإلى ذلك الحين يظل أن يعاد النظر في القوتين الأخريين في الساحة الدولية: روسيا والصين.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد