أخيراً صدر المرسوم الرئاسي الذي تأخر طويلاً. كان الموعد الطبيعي لو كنا شعباً طبيعياً وفصائل طبيعية أن يصدر نهايات 2009 لتجري الانتخابات في كانون الثاني 2010، وتأخر ثانياً قبل أكثر من عام عندما تم تعليقه في كانون الأول 2019 بانتظار موافقة إسرائيلية على إجرائها في القدس ، ولكنه صدر رغم كل الحوارات والتلكؤ، فأن يأتي متأخراً كثيراً خير من ألا يأتي أبداً، ارتباطاً بحالة تركت ما يفيض من الإحباط واليأس من إجراء انتخابات بعد أن تكفل السلاح بإغلاق فوهة الصندوق منذ زمن بعيد.
شكراً لكل الدول التي اجتهدت في إقناعنا بمصلحتنا، وشكراً لكل من ضغط علينا.. فقد تبدى أن الشعب ومصلحته لا تؤخذ بالاعتبار في معاكسة شديدة لمفهوم الانتخابات كثقافة تستند لحكم الشعب، لا لرغبات الفصائل وحساباتها وعلاقاتها الخارجية، ولكن لا ضير من تدخل أو ضغوطات دول علينا نحن، المبتدئين، في السياسة ورسبنا في الاختبار البدائي للديمقراطية وثقافتها، وطال رسوبنا كلما أعدنا تقديم الامتحان بلا نتيجة.


ماذا عن التأخير بسبب القدس وانتظار موافقة إسرائيل التي لم تأت بعد؟ لا أحد يسأل، فماذا يعني عام آخر لشعب تأخر مشواره أحد عشر عاماً لكنه عاد للوراء عشرات الأعوام بعد أن شارف على التصفية وأصيبت كل مؤسساته بالوهن، لكن لا مجال للتساؤلات الصعبة الآن أمام المرسوم الذي يعيد دوران العجلة التي أصيبت بالعطب؛ لأنه الفرصة التي تعيد للنظام السياسي حيويته وتعيد للناس حقهم باختيار ممثليهم وتجديد المؤسسات الوطنية، خاصة أن المرسوم ينص على انتخابات المجلس التشريعي والرئاسة واستكمال المجلس الوطني، أي كل المؤسسات.


كان لافتاً استخدام كلمة رئاسة الدولة الفلسطينية لتنسجم مع الاعتراف الذي تحقق في الأمم المتحدة عام 2012، ولكن الأمر كان يجب أن ينسحب على التشريعي كبرلمان للدولة. وفي كل الظروف إن تمت الانتخابات في موعدها المقرر بعد حوالى أربعة أشهر نحن على أعتاب مرحلة جديدة ليس بالمعنى الإداري، إذ إن الانتخابات ستعيد ربما نفس الوجوه، خصوصاً أن حركتي فتح و حماس ما زالتا الكتلتين الأكبر وتحظيان بتأييد القسم الأكبر للشعب الفلسطيني، وهو ما يجعل من التسريبات بتوافق الحركتين على النتائج مسبقاً أمراً يمكن تصديقه.


رغم التعثر في أداء الحركتين في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد الانقسام، فمن الطبيعي ألا تتمكنا كسلطات تحملت المسؤولية تحت الاحتلال وبقي الاحتلال متحكماً بالمال والاقتصاد، من تحقيق الحد الأدنى من احتياجات الناس وفي ظل موازين القوى القائمة ألا تتمكن أي منهما من التقدم في المشروع الوطني، ولكن لم يكن مبرراً في سلوك أي منهما في الضفة الغربية وقطاع غزة التعدي على الحريات التي أطاحت بالحريات السياسية، وهو ما تحسبان له الآن بالتأكيد في لحظة الفكرة حيث صياغة الخطاب الانتخابي أمام الجمهور.


يجري الحديث عن قائمة مشتركة تضم الحركتين. هذا حق لهما ففي السياسة لا خصوم ولا أصدقاء دائمين، وهي تحتمل قدراً كبيراً من الميكافيلية، خاصة في ظل العجز الذي تبدى والذي جسّده فائض أحلام نتجت عن شعارات حملة سابقة من الوحدة والعمل المشترك وخفض الضرائب، وتجريم الاعتقال السياسي، ليصحو المواطن على كل ما هو نقيض لهذا... «أعانهم الله على صياغة شعارات حملة قادمة، حين سيجري الحديث عن حرية المواطن ورفاهيته وإعطاء الحريات وتجريم الاعتقال».


وبكل الظروف أيضاً، فإن أي توافق وبغض النظر عن شكله هو أفضل كثيراً من حالة الخلاف القائم، أما أمر الانتخابات فيعود للمواطن نفسه الذي تتوفر له فرصة إصدار حكمه على القوى والفصائل وأداء كل المنظومة، سواء الأمنية أو الخدماتية أو الشفافية والفساد، فما ستنتجه الانتخابات هو مسؤولية الشعب بالقدر الأكبر.


كيف ستحل مسألة القدس؟ سيبقى السؤال معلقاً. وكيف ستحل مسألة سلاح «حماس» في ظل الحديث عن سلطة واحدة؟ حتى إن كانت «حماس» جزءاً من البرلمان والحكومة، فإن سلاحها سيبقى خارج الحكومة. وإن كانت أسئلة كهذه وغيرها مدعاة للتفكير كطلاسم أنتجتها حالة غرائبية تجسدت بالتجربة، لكن الأمل بالروح الجديدة التي تنبعث من اللغة التي تتحدث بها «فتح» والموافقة الصامتة لدى «حماس» تعطي نوعاً من التفاؤل، فليس هناك مستحيل رغم وعورة الطريق.


الشعب هو من يقرر، وهو من يكافئ وهو من يحاسب. هذه هي بديهيات الانتخابات. وبالتالي، فإن المطالبات بحل الإشكاليات القائمة قبل الانتخابات هي مطالبات متفائلة ارتباطاً بتجربة طويلة من فشل حل الحد الأدنى للإشكاليات، وبالتالي حين يتسلم الشعب صلاحية الحكم لا لزوم لأن تتفق أو تتوافق الفصائل؛ لأن هناك من سيفصل فيما عجزت عنه القوى لعقد ونصف العقد. فالسلطة الأعلى وفقاً للدساتير هي سلطة الشعب إذا ما أتيح له ممارستها، وهي تلغي أي سلطات أخرى عندما تعود للشعب صلاحياته.
لكن الانتخابات في الدول العربية، ونحن جزء من ثقافتها، لا تتم ممارستها بالمعنى الديمقراطي أو وفقاً للمفهوم الذي صاغه أصحاب نظرية الانتخابات، وهي أن تترك للشعب حريته في تشكيل تكتلاته الاجتماعية والسياسية بكامل حريته، ويتم عرض هذه الكتل التي تتنافس ليختار دون قيود، وفي الدول العربية يجري التحكم بالعملية وبالنتائج ونسبة الفوز والمرشحين الموالين وحرمان الخصوم من الترشيح. فهل ستعطي كل الكتل الشعبية حقها في عرض نفسها على الناس أم أن وفاق الحركتين هو عملية التفاف لتقاسم كل شيء وحدهما، وحرمان آخرين من المشاركة؟


من حق «حماس» و»فتح» أن تتحاصصا وتلك ليست تهمة؛ لأن الائتلافات في الدول الديمقراطية تقوم على المحاصصة، وهي تهمة اعتادت الفصائل الصغيرة على توجيهها للحركتين، فالسياسة لا تعرف الضعفاء، لكن هذا إذا تم انتخابهما بشكل حر لا انتخابات يتم تصميمها وفقاً لنجاح كتلتيهما، فقط سواء بشكل مشترك أو منفرد، خصوصاً أن التركيز على انتخابات السلطة التي تحظي بأولوية وهي سلطة الخدمات كما تم تعريفها، ولكنها في نفس الوقت سلطة الثروة والمكانة الاعتبارية والاجتماعية والصلاحيات والوزارات والسفارات والمال، وإن بدا ذلك لا يستوي مع شعب يتحكم الاحتلال بكل مصادره.


وإن تمت الانتخابات، حيث التخوف يظل قائماً، فالحقيقة أن البعد السياسي هو الأهم في كل ما يحدث أمام التغيرات الهائلة والركام الذي خلفته سنوات ترامب، من تمدد إسرائيلي التهم كل شيء، وانفتاح بعض العرب على إسرائيل، ومع مجيء الرئيس بايدن. وإن صدقت التسريبات بعودة الاهتمام بالملف الفلسطيني، فهذا يضع أمام الفلسطينيين مهمة سياسية أكثر صعوبة تحتاج إلى كفاءة وجسارة سياسية مشكوك بها. الانتخابات تضع الفلسطينيين على بداية الطريق، ولكن الفكر السياسي يجب أن يبدأ الآن بالتحضير لكومة معالجات داخلية وخارجية نتجت عن عبث الفلسطيني بنفسه لسنوات، وعن رئيس أميركي أكثر عبثية...!!

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد