يبدو أن هذه مرحلة انكماش أوروبي جديد في العلاقات الدولية. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي الذي تبلور عبر عقود من الزمن ونجح في فرض توجهات خارجية لمجموعة من الدول، وإن بتباين، يشهد مرحلة انحسار كبيرة في أدائه الخارجي، ناهيك عن تعثر عمليات التوسع وربما حدوث عمليات تفكيك بداخله. المؤكد أن فعالية المنظمة الإقليمية الأكبر عالمياً والأكثر نجاعة ونجاحاً بدأت تنحسر أو أنها تشهد حالة انحسار، من المؤكد أيضاً أنها لن تكون قصيرة الأمد. إن الحالة الأوروبية القوية التي كانت محط جذب الكثيرين تقف الآن عاجزة عن تطوير نفسها. وربما يبزغ السؤال الذي ظل حبيساً خلف جدران النجاح الأوروبي طوال الوقت: هل استنفد المشروع الأوروبي طاقاته؟ هذا سؤال آخر ربما تطرقنا له في مقال لاحق، لكن جزءاً كبيراً من الإجابة عن هذا السؤال بقدر ارتباطه بالحاجة لوجود هذه الوحدة الأوروبية ولتطور مشروع التكامل الأوروبي باتجاهات أكثر سياساتية وتنفيذية في قطاعَي الأمن والخارجية، يرتبط أيضاً بمكانة أوروبا في المشهد الكوني المتحول. إن الإجابة الأوروبية عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت أوروبا مسرحها الأكبر وكانت في الأساس نتيجة صراع مرير بين دولها الكبرى، كانت في تحييد كل عناصر الصراع ونزع فتيل أي اقتتال حول المواد الخام من الحديد الصلب والكربون. قصة التكامل الأوربي حكاية نجاح لم يكن أحد قد رسمها في مخيلته قبل أن تحدث. لكنها حدثت. ولحظة التتويج ربما كانت بتطور السياسة الخارجية والأمنية المشتركة والأحلام السعيدة عن وجود جيش أوروبي مشترك.


وفعلاً وطوال عقدين مضيا نجحت أوروبا في تقديم نفسها كقوة كونية قادرة على أن تقوم بأدوار مهمة في الساحة العالمية. وتعدى الأمر التوصية بتبني توجهات محددة في السياسة الخارجية للدول الأعضاء، بل صار ما يمكن أن يقال عنه: موقف أوروبي موحد. وصار يمكن تجاوز عبارة كيسنجر الشهيرة التي قيلت من باب السخرية: على أي رقم هاتف أتصل حين أريد أن أتحدث لأوروبا. حتى في الصراعات المعقدة مثل الشرق الأوسط بات لأوروبا دور صحيح لا يضاهي دور واشنطن إلا أنه كان حاضراً دوماً.


الآن اختلف الأمر قليلاً. من المؤكد أن خروج بريطانيا من الاتحاد سيترك آثاراً حقيقية على مكانة الاتحاد. على مدار عقود ظلت سياسات الاتحاد قائمة على مثلث شهير: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وكان يصعب تخيل تبني الاتحاد، وقبل ذلك المجموعة الاقتصادية الأوروبية، أي موقف في أي قضية داخلية أو خارجية دون وفاق ثلاثي، إذ إن بريطانيا جلبت معها لهموم الوحدة الأوروبية اهتماماتها الخارجية كقوة عظمي واستعمارية سابقة، كما فعلت فرنسا حين أدخلت معها كل الهموم الفرانكفونية فور توقيع اتفاقية روما المؤسسة لنواة المشروع الأوروبي. أما ألمانيا القوة الاقتصادية الأكبر وصاحبة النفوذ الكبير على عدد من الدول الأعضاء، فظلت ذات ثقل لا يمكن تجاهله، ليس لأن البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت، بل لأن ألمانيا أيضاً قوة نجحت في استعادة بعض من دورها المفقود بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية عبر الاقتصاد. الآن لم يعد ثمة ضلع بريطاني في المثلث. وسيصار يشار إلى قوة أوروبية منفصلة جديدة. صحيح أن بريطانيا لم تختف كقوة كبرى من السياسة الدولية حتى بعد دخول نادي بروكسل وحافظت على بعض الخصوصية في مواقفها، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، ولكن كان دائماً يشار إلى هذا ضمن التباين الأوروبي الداخلي في الموقف. ودون المغالاة فيما يمكن لبريطانيا أن تقدمه «منفصلة» في السياسة الدولية، إلا أن لهذا أثراً واضحاً في قوة أوروبية منكمشة الآن.


أيضاً لم تعد أوروبا تزخر بالأسماء الكبرى في السياسة الدولية. لم يعد ثمة أسماء مؤثرة في العلاقات الدولية تتزعم هذه الدول الأعضاء في الاتحاد. مضى زمن شيراك وبلير وساركوزي وميركل وبرلسكوني (مع كل الاختلافات بينهم) ويمكن إضافة أسماء أخرى من الحقبة الأسبق مثل تاتشر وميتران وكول، وأيضاً على كل الاختلاف بينهم. وحتى على المستوى الأقل يمكن استذكار وزراء خارجية أوروبيين فاعلين وكان لهم أثر كبير في السياسة الدولية. كما أن الزخم الكبير الذي شهده إطلاق السياسة الأمنية والخارجية المشتركة ضمن الدعائم الثلاث لاتفاقية ماستريخت المؤسسة للاتحاد الأوروبي، وبعد ذلك اتفاقية لشبونة والاندفاع الكبير لخصوم الأمس من وسط وشرق أوروبا للحاق بركب بروكسل، وما تلا ذلك من قمة براغ لحلف الناتو، كل هذا الزخم الذي كان يبشر بدور بارز ومتصاعد لأوروبا في السياسة الكونية بدأ يتراجع. ربما لا يوجد من يتذكر الآن اسم المسؤول عن السياسة الخارجية الأوروبية اليوم، لكن الكل ما زال يتذكر مثلاً اسم خافيير سولانا. في الشرق الأوسط الكل يتذكر موراتينوس ممثل الاتحاد الأوروبي لعملية السلام ولا أحد يتذكر الآن من يقوم بهذه المهمة. وبشكل عام، فإن قوة الكل من قوة الأفراد. وهذا صحيح من حيث المنطق ومن حيث الملاحظة. وعليه فإن انخفاض حضور الدول الأوروبية في السياسة الدولية سيتواصل، وهذا بدوره سينعكس على الانكماش الأوروبي المتواصل.
الخلاصة أن الحضور الأوروبي سيشهد انكماشاً متزايداً، خاصة بعد ما ستتركه الجائحة من آثار على معالجة الدول للتعبات الداخلية لسنة مفقودة من عمرها. وهذا يبدو منطقياً. لكن يظل السؤال الأكبر: ألن تشهد السياسة الدولية وحيوية الفعل السياسي الخارجي للكثير من الدول انكماشاً أيضاً. ربما لأسباب مختلفة. هل ثمة انكماش أميركي قادم مع بايدن؟ يصعب الجزم، لكن من المؤكد أن حدوث هذا وارد، وهو غير مرتبط بالجائحة مثلما قد يكون الحال لدى البعض، بل بتطبيب الجراح الكبرى التي تركتها سياسات ترامب بالنسبة لمصالح أميركا. والشيء ذاته ولأسباب مختلفة يمكن أن يقال عن قوة كبرى أخرى؟ هل هذا زمن تراجع القوة الكبرى أو غيابها؟

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد