كما في كل عام لا يمكن أن تمر انطلاقة «فتح» دون وقفة واستعادة للنقاش الحقيقي حول مستقبل الحركة الوطنية. جزء من ذلك أن الحديث عن الحركة الوطنية لا يستقيم دون التأكيد على مركزية دور «فتح» وحقيقة أن «فتح» هي من بلورت الوطنية الفلسطينية طوال أكثر من نصف قرن من الزمن. وأيضاً أن مستقبل الحركة الوطنية مرتبط بمستقبل «فتح»، وأن مستقبل الأخيرة يهمّ الكل الفلسطيني بقدر دورها التاريخي في تشكيل مسار الأحداث في القضية الوطنية طوال العقود الماضية. لذا فإن كل انطلاقة لـ»فتح» هي تذكير بكل هذه الأسئلة المصيرية التي على الفلسطينيين أن يجيبوا عنها حول مستقبلهم وتطور قضيتهم.


والفتحاويون أكثر من غيرهم عليهم أن يقفوا دائماً بجدية أمام تلك الأسئلة ،لأنهم وحدهم من يستطيعون أن يقدموا إجابات دقيقة حول ملامح الحركة الأكثر عراقة وأصالة في التاريخ الوطني الفلسطيني الحديث والمعاصر. ومن هنا فإن السؤال الفتحاوي بقدر كونه سؤالاً وطنياً بامتياز إلا أنه يعني كل فتحاوي بشكل فردي. فكل فتحاوي يعتقد أن «فتح» له وحده، لا يشاركه فيها أحد. وهذا أحد أبرز معالم الشعور الفتحاوي. وحين تتربى في «فتح» أو تشعر بعمق انتمائك الفتحاوي، فأنت وقتها يمكن لك أن تدرك كيف يكون الشعور حين تظن أن مصير «فتح» مرتبط بك، وكيف يكون الشعور حين تظن أن عليك تغيير الكون ولا تستطيع. إنه ذات الشعور الذي يحس فيه كل فتحاوي وهو يراقب أخطاء الحركة وعثراتها، وعدم مقدرتها على تجاوز بعض الإشكاليات البسيطة التي تصبح مع الوقت جبالاً ثقيلة على الصدر الفتحاوي، وهو نفس الشعور بالغضب والألم والحسرة والنقمة التي تبدأ من عمل قيادة الشعبة التنظيمية في الحي الذي تسكن فيه إلى عدم نجاعة أطر الحركة وخلاياها المتقدمة. كل فتحاوي لديه قسط من هذا الغضب، ولديه ما يقوله من ملاحظات على كل مستوى من مستويات الحركة، ويستطيع أن يسرد مئات الأسباب التي يمكن لأبسطها أن تدفعه لترك الحركة، لكنه كلما غضب أكثر وجد نفسه متمسكاً بها أكثر.

ببساطة لأنه منذ اللحظة التي التحق فيها بصفوفها لم يفارقه اليقين بأنها أكثر الإجابات بساطة وصدقاً في التعبير عن الحالة الفلسطينية.


ربما هذا مديح في «فتح»، وربما أن من عاش في زمن «فتح» يدرك كيف لتنظيم أن يمنى بهزيمة انتخابية، ومن ثم بانقلاب دموي على سلطة يقودها، أن يواصل حضوره بتدفق النهر من شرايين الجبال. حتى حين تخسر «فتح» الانتخابات فإنها تخسر لأن من صوّت من أبنائها لخصومها فعل ذلك «حباً» في «فتح»، لأنه أراد لـ»فتح» أن تكون أفضل من ذلك. لأن «فتح» التي يحلم بها، وكل فتحاوي له «فتحه» التي يحلم بها، ما كان يجب أن تتصرف هكذا أو تتبني هذا الموقف أو تسلك ذلك الطريق.


وثمة «فتح» بتعداد الفتحاويين، لكنها «فتح» واحدة مع هذا إلا من ارتكب الموبقات حتى تلفظه «فتح» من بطنها، فهي «فتح» التي يشعر كل فلسطيني حتى غير الفتحاويين أنها لهم، وأن شأنها يعنيهم، وأن كل ما يتعلق بـ»فتح» يتعلق بهم، وأن مصيرهم مرتبط بمصير «فتح». فقط هذا التنوع وهذا الشعور بالمسؤولية الجماعية على «فتح» هو ما يسلط على «فتح» كل هذا النقد وربما يضعها تحت المجهر، وربما يجعلها الأكثر عرضة للانتقاد، وربما أيضاً أن تلك المساحة الواسعة والفضاء الرحب الذي يوفره الانتماء الفتحاوي، والإحساس الوطني خلف الفكرة الفتحاوية، هو ما يجعل كل هذا مباحاً، ويجعلنا نسمع كل هذا الغضب على «فتح» وندرك أن الغيرة على «فتح» هي وراء ذلك.


وبقدر ما في كل السابق من احتفال بالفكرة الفتحاوية، بقدر ما فيه من استعادة للقلق على مستقبل «فتح». فـ»فتح» الآن وهي تدخل عامها السادس والخمسين بحاجة لتأمل مسيرتها أكثر من أي وقت مضي مع تعثر العملية السلمية التي وضعت كل ثقلها خلفها، واليقين المتزايد بأن شيئاً لن يتحقق من وراء التفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض، وتعثر الحالة الوطنية مع استمرار حالة المد والجزر في ملف المصالحة وانتظار المولد (الانتخابات). هناك استحقاقات وطنية بحاجة للوقوف أمامها من أجل أن يكون المستقبل أكثر يقيناً. ربما أكثرها أهمية هو التطلعات الوطنية في الوقت الراهن.


السؤال المهم الذي يتعلق ببرنامج «فتح» السياسي. ربما دون المساس بالمنجز المتحقق من وراء السلطة الفلسطينية كنواة للدولة المرتقبة، هل حقاً على «فتح» أن تواصل تمسكها بمشروع السلام بالطريقة التي فرضتها أوسلو أو آلت إليه في أوسلو؟ أظن أن مثل هذا السؤال يجب أن يكون محور نقاش أي مسودة لبرنامج «فتح». ما تقوله «فتح» يصبح مرجعية قول الجميع. لذلك وجب على «فتح» أن تكون أكثر جرأة من غيرها في انتقاد نفسها ومجابهة الأسئلة التي تدور في عقل كل فلسطيني. مرة أخرى يجب الفصل بين المنجز وسبل الحفاظ عليه وبين تجاوز عثرات المشروع السياسي.


يرتبط بهذا الأسئلة التنظيمية المختلفة حتى المؤتمر العام القادم تفعيل أطر التنظيم والنظام الأساسي للحركة الذي لم يتم تعديله وفق توصيات المؤتمر العام السابع. وتظل ضرورة تعزيز حالة الحركة في الشتات وإعادة تفعيل منظمة التحرير بوصفها البيت الحقيقي للفلسطينيين والمظلة التي تجمعهم أسئلة بحاجة لأكثر من مجرد إجابة بل جهود لترجمة تلك الإجابة إلى حقائق. إن شعباً أكثر من نصفه في الشتات يجب ألا ينسى هذه الحقيقة، ويجب ألا تنساها «فتح» تحديداً، لأنها أكثر من يستطيع أن يجيب عن الهم الفلسطيني باقتدار.


ولأن «فتح» تفكر هكذا فهي تظل تنظيم الجماهير، لأنها دائماً على قدر القلق تسير كأن الريح تحتها.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد