مع اسدال الستار على عام 2020 ونهاية حقبة ترامب ينتظر الفلسطينيون اعادة تصويب المسار، واعادة بعث الحياة للقضية الفلسطينية بعد تطورات قاسية ما زالت تعيش تداعياتها. فالاحتلال الى مزيد من التطرف والعنصرية وشطب الحقوق، والاستيطان مستمر، وانحياز امريكي ظالم، وعجز دولي، وقطار تطبيع عربي يفعل فعله في تعقيد المشهد، وانقسام فلسطيني مستمر يدفع باتجاه تراجع الفعل الفلسطيني.

شكلت المفاوضات في اطار عملية سياسية بضمانات دولية الفضاء الفكري للقوى التي تؤمن باستخدام ادوات القوة الناعمة لانجاز الاستقلال في اطار تقييم واقعي للتوازنات الاقليمية والدولية. وكان من المقرر أن ينتهي الاحتلال بعد سنوات قليلة من أوسلو، ولكن سياسات الاحتلال ازدادت تشدداً وحالت دون انجاز حل، ووصلت العملية السياسية الى مسار مغلق. وفي كل مرة تبرز تطلعات باحداث اختراقات جديدة في المفاوضات، ولكن الاولويات الاستراتيجية مع الاحتلال تتصادم، فبينما يريد الشعب الفلسطيني اقامة دولة مستقلة على حدود 1967، فان هدف اسرائيل الاستراتيجي هو منع قيام دولة فلسطينية تعتبرها مهدداً استراتيجياً لبقائها. لذلك في كل مرة نعود لجولة جديدة من المواجهة كالدخول في انتفاضة الأقصى، أو وقف المفاوضات بعدها بسنوات نظراً لتهرب الاحتلال من استحقاقاتها، ثم تعود المحاولات لضبط العلاقة من جديد. وبعد كل جولة ينشأ واقع جديد، وفي هذه المرة كان التطبيع هو الجديد الذي اضاف ضعفاً لا قوة للموقف الفلسطيني كما يدعي المطبعون.

كذلك مثلت المقاومة الفضاء الفكري الذي تصنع فيه سياسات القوى التي تؤمن باستخدام القوة الخشنة لإنجاز الاستقلال، وحاولت هذه القوى تعظيم القوة، ولكن لا فائدة ما لم يتحقق الهدف من تعظيم القوة، فلم تتمكن من انجاز أي خطوة على طريق الاستقلال، حيث اصبحت المواجهات التي تخوضها لتأمين الاموال والحفاظ على الحكم المنفصل، حتى ولو كان الحفاظ عليه يضر بوحدة الموقف، ويضعف المصلحة الفلسطينية العامة التي تقتضي سلوك مشترك وموحد من الفاعلين الفلسطينيين امام العالم، بل واستخدم كذريعة لتمرير التطبيع.

أصبح لدينا عالمين فكريين تتخذ فيهما القرارات السياسية دون خارطة طريق للتعامل مع التحديات، أي دليل للمسار السياسي في ظل تعنت الاحتلال، والانحياز الامريكي، والعجز الدولي، والتطبيع العربي، واخر لآليات المقاومة مقابل تفوق الاحتلال العسكري، وقدرته على تحييد قوتها العسكرية عندما تشكل تهديداً حقيقياً عليه، وعندما تتجاوز رؤيته لدورها كبطاقة يوظف سيطرتها على قطاع غزة لإدارة الانقسام الفلسطيني. وهكذا بات الامر في غزة مقتصراً على تأمين المال في ظل اوضاع متداعية، بينما تعيد السلطة علاقتها مع الاحتلال بعد تراجعه عن الضم وتعهده الالتزام بالاتفاقيات في اطار الاعداد لإطلاق العملية السياسية في زمن بايدن.

فاقم التطبيع من حالة الاستعصاء، وسجل كنجاح للاحتلال في ادارته للصراع، حيث عجز العرب سابقاً عن التعامل مع انتهاك اسرائيل لقرار التقسيم، وتجاوز خط الهدنة، ثم لاحتلالها اراضي 1967، وتغير الموقف العربي من اسرائيل من احتلال يجب الخلاص منه الى كيان يمكن التعايش معه، فقبلوا بقرار 242، وعرضوا مبادرات عديدة مثل مبادرة فهد، ومبادرة فاس، وقبلوا باتفاقيات اوسلو وفقاً لمبدأ الأرض مقابل السلام، ثم تجاوزوا المبادرة العربية الى القبول بلا شيء مقابل السلام.

وقد سعت اسرائيل الى بدعة الحل الاقليمي منذ أكثر من عقد ونصف، والمقصود هنا ليس ادخال اطراف اقليمية للمشاركة في الحل، بل تجاوز الفلسطينيين وعقد سلام مع هذه الاطراف يفرض الاستسلام على الفلسطينيين. ونجح هذا الجهد في زمن ترامب الذي عمل قولاً وفعلاً على تصفية القضية الفلسطينية، بمنح القدس ومساحة 33% من الضفة للاحتلال، وشطب قضية اللاجئين من خلال تصفية الأونروا ونقل اللاجئين للمفوضية السامية لشئون اللاجئين لتعيد توطينهم في بلدان اخرى، وابقاء السيادة الكاملة للاحتلال على معازل فلسطينية لا تتوفر لها شروط البقاء.

تم التلاعب بوعي العرب واقناعهم ان اسرائيل رأس المشروع الكولونيالي في المنطقة ستكون حليفتهم في مواجهة ايران التي تم اعادة تعريفها كعدو جديد بسبب تدخلاتها التوسعية في دول المنطقة. فقبل بعض العرب الواقع الجيوسياسي الجديد بالتخلي عن فلسطين لصالح الاحتلال مقابل مواجهة تهديدات ايران، والحفاظ على بقاء انظمتهم الحاكمة وحمايتها من هزات امريكية جديدة بعد تجربة الربيع العربي من خلال اقامة علاقة مع اسرائيل صاحبة التأثير في دوائر القرار الامريكي؛ وحل بعض المشاكل الخاصة لدول بعينها؛ والتعاون في مواجهة الارهاب والتعاون الاقتصادي والتكنولوجي، وبعض صفقات السلاح.

ليس هناك علاقة للتطبيع بدفع السلام، فلو ارادت اسرائيل السلام مع العرب لالتزمت بالاتفاقيات وحققت السلام معهم في وقت قصير من خلال المبادرة العربية، ولكن اسرائيل لا تريد السلام بل تريد توظيف التطبيع كقنطرة لتجاوز الحقوق الفلسطينية، حيث شطبت مبدأ الارض مقابل السلام، وطبعت مع العرب وفق مبدأ السلام مقابل السلام وليس مقابل الارض. ولو أراد المطبعون دعم فلسطين لما طبعوا مع قدس محتلة، واستيطان مستمر.

ولإسرائيل مصلحة في التطبيع حيث يخدم في دمجها في نسيج المنطقة، ويقلل الأثار السلبية التي تترتب على استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سواء في الساحة الداخلية أو بالنسبة لصورة إسرائيل في الساحة الدولية. فبالنسبة للساحة الداخلية ستبقى مهددة أمنياً مع احتمال العودة للمواجهة الشاملة مع الفلسطينيين، كما أن المراوحة السياسية لا تسهم في اخراج إسرائيل من خطر العزلة الدولية مع استمرار الاحتلال ونظام الفصل العنصري في الضفة الغربية. كما ان اسرائيل لن تستطيع الاستمرار في معارضة الرؤية الامريكية الداعية لحل القضية الفلسطينية في سياق ترتيب المنطقة لإبقائها في دائرة النفوذ الامريكي خاصة وان معظم الدول العربية تدور في الفلك الامريكي، وهو ما يتطلب تنسيقاً وتفاهماً اسرائيلياً مع الولايات المتحدة خاصة وأنها الداعم الاهم لها في مواجهة عمليات نزع الشرعية عنها في المحافل الدولية المتعددة والداعم الاهم لتفوقها العسكري والامني.

قدم بعض العرب التطبيع مجاناً ووضعوا الامن القومي العربي في حالة من عدم اليقين وهم يعلمون ان الخطوة القادمة هي تمدد الاستعمار الناعم للعواصم العربية بعد ان اسقطوا حصونهم طواعية من الداخل، فلن تقف اسرائيل عند هذا الحد فالقاعدة الاستعمارية تقول ما لا ينمو يتعفن، أي ان الاحتلال اذا لم يتمدد فانه سينكمش ويتراجع، وهذا خارج حساباتها، حيث سيبدأ الاخضاع السياسي وهدم الهوية العربية، والسيطرة على الاسواق، باستخدام ادوات الاقتصاد والتكنلوجيا والامن والاعلام، فالقوي يفعل ما يريد والضعيف سيعاني كما يجب.

لا سلام في المنطقة دون فلسطين، فالشعب الفلسطيني لن يقبل باستمرار الاحتلال والاستيطان والقتل وسيبقي المواجهة مع الاحتلال خياراً، وهكذا لن يتحقق السلام للاحتلال ولن يكون التطبيع مع العرب بديلاً. وسيتحول التطبيع الى اداة ضد انظمة المنطقة نظراً لمكانة القضية الفلسطينية في قلوب الشعوب العربية، والتي ستدعم كفاح الشعب الفلسطيني وحراكه وهذا سيضع التطبيع على المحك، وسيحرج انظمة التطبيع ويدخل المنطقة في حالة من التوتر وعدم اليقين، خاصة مع استمرار غياب ترتيبات للأمن الاقليمي مع القوى الاقليمية تركيا وايران والتي ستستغل أي توتر لدفع مشاريعها الاقليمية.

لذلك سيبقى الفعل الفلسطيني هو الذي يحدد التعامل العربي مع القضية الفلسطينية، فتراجعه يشجع العرب على التطبيع وحجب الدعم وصرف الاهتمام عن القضية، بينما تفعيله يمتد ليؤثر على الشعوب العربية ومواقف دولها، ويؤثر على بيئة المنطقة الجيوسياسية، وعلى الاستجابة الدولية للصراع، وخير مثال تجربة انتفاضة الاقصى وتداعياتها على المواقف العربية. ويرتكز الفعل الفلسطيني على قدمين: الوحدة، واستراتيجية عمل موحدة، وفي حال استمر غياب الفعل الفلسطيني سنبقى في حالة من الاستعصاء.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد