ما بين الثالث من تشرين الثاني الماضي وكانون الأول الحالي، أي نحو ستة أسابيع، دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بلاده إلى حالة من عدم الثقة، ومعها العالم لحالة من التشكيك في نزاهة النظام الديمقراطي الأميركي، حيث واصل الادعاء الذي لم يدعمه بالأدلة الكافية بأن الانتخابات شهدت عملية تزوير، بل وانه هو الفائز بها وان الفوز قد سرق منه، وكان ذلك يكشف عن انه ـــ أي ترامب ـــ هو الذي يبدو كرئيس من العالم الثالث، وليست ديمقراطية بلاده، ولا نظامها الانتخابي.
المهم أن الطبيعة الشخصية للرجل التي كشف عنها بشكل جلي جدا، موقفه من نتيجة فرز الأصوات الانتخابية، حيث إن ادعاءه بتزوير الانتخابات والذي أقتصر بالمناسبة على الولايات التي خسر فيها، قد توج اربع سنوات من حكمه التي تسبب خلالها بالويلات لشعبه الذي ساهمت سياسته جدا في تفشي وباء كورونا بين صفوفه حتى كانت أعلى حصيلة وفيات وإصابات هي من نصيب الشعب الأميركي، أما على الصعيد الخارجي فقد تسبب في تعميق جراح الكثير من الشعوب وفي مقدمتها شعوب الشرق الأوسط، حيث انه دفع مجددا بحبل التوتر مع إيران، وصمت عما يحصل في اليمن وليبيا، والأخطر أنه فيما يخص الملف الفلسطيني، لم يبق على حاله من الجمود، بل دفعه الى الوراء كثيرا، بعقد صفقات التطبيع مع أربع دول عربية ــــ حتى الآن ــــ من وراء ظهر الشعب الفلسطيني، وخارج إطار الجامعة العربية!
بعد إعلان التطبيع بين المغرب وإسرائيل، الأسبوع الماضي، سارع رئيس حكومة اليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الى توجيه الشكر للرئيس ترامب الذي حقق لإسرائيل عدة صفقات سياسية، دفع ثمنها السياسي من خزينة الخارجية الأميركية، فيما لم تدفع إسرائيل أي شيء مقابلها، رغم أنها هي من قبض الثمن، وقد فعل ترامب ذلك، مستذكرا كونه تاجر عقارات بالأساس، لا يقيم وزنا للأخلاق ولا للحسابات بعيدة المدى، ولا حتى للقانون، لا الدولي ولا حتى الأميركي نفسه، وإلا كان قد اكتفى باللجوء للقضاء والرضا بحكمه فيما يدعيه من تزوير لانتخابات الرئاسة.
وبالعودة لاستعراض ما عقده من صفقات تطبيع مع الدول العربية الأربع، يتضح تماما عقده الصفقات بالمنطق العقاري إياه، ومن جيب الولايات المتحدة وليس من جيب إسرائيل، فالصفقة مع الإمارات كانت واضحة، وتلخصت في التطبيع مع إسرائيل مقابل تمرير صفقة طائرات "إف 35"، وأما البحرين فهي قد رافقت الإمارات لتحصل على بقاء النظام الحاكم، ومنح البلد الفقير نسبيا في الخليج بعض الأموال من خلال إنعاش السوق السياحية الخليجية.
أما صفقة السودان فكانت أيضا واضحة وصريحة، وهي شطب السودان من خانة الدول الراعية للإرهاب، أي عدم اللجوء لمنطق القانون الدولي لا في وصفها بهذه الصفة، ولا عند شطبها عنها، وكذلك عند الحديث بتفاصيل الرقم المالي الخاص بتعويض أسر ضحايا اعتداءات 11 أيلول وغيرها.
كذلك جاءت صفقة التطبيع مع المغرب، حيث مقابل تطبيع المملكة المغربية، تعترف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء المتنازع عليها مع البوليساريو، دون العودة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي الذي يتابع هذا الملف وفق القانون الدولي.
هذا ما فعله ترامب فيما يخص واحدا من أعقد واخطر الملفات السياسية التي تخص الشرق الأوسط، وهو بذلك يخرج من البيت الأبيض، بعد ان قام بالعبث ليس ببلاده وحسب، ولكن بمجمل العالم، ومنه منطقتنا العربية، والشرق الأوسط كله، بما يلقي بأعباء سياسية هائلة أمام خلفه الرئيس المنتخب جو بايدن.
ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فإن عهد ترامب، قد مهد الطريق لصعود الصين في حقل الاقتصاد العالمي، وروسيا في حقل السياسة الدولية وحتى الإقليمية، مقابل تراجع النفوذ الأميركي ومكانة الولايات المتحدة على صعيد قيادة العالم، تلك المكانة التي تحققت بعد انتهاء الحرب الباردة، وتكرست خلال العقود الثلاثة الماضية.
وقد كان بايدن واضحا فيما يخص هذا، حيث اعلن إبان مسار الترشح والدعاية الانتخابية، ثم بعد فوزه، بأنه عازم على تغيير سياسة سلفه بالكامل، محاولا ان يعيد الثقة العالمية بالمكانة القيادية لبلاده، من خلال اتباع سياسة متوازنة في كل الملفات، بما فيها ملفات الشرق الأوسط.
حين يتولى بايدن المهمة رسميا بعد شهر من الآن، فإنه سيواجه فيما يخص منجز ترامب في ملف التطبيع مع أربع دول عربية، منطق المقارنة بين اتفاقيات سلام حدثت في عهد الرئيسين الديمقراطيين السابقين، جيمي كارتر وبيل كلينتون، أي اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر وأوسلو ووادي عربة مع كل من فلسطين والأردن، وإعلانات التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، السودان والمغرب، التي وقعت في آخر عهد ترامب، والفارق جوهري، ففي كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربية، قدمت إسرائيل المقابل للدول العربية، انسحابا من سيناء، ومن الأراضي الأردنية المحتلة العام 67، كذلك إنشاء السلطة الفلسطينية والاعتراف بـ"م ت ف" للجانب الفلسطيني، والانسحاب مما سمي المناطق "أ"، وتقاسم المناطق "ب".
أما في إعلانات التطبيع الترامبية، فالمقابل الذي تم تقديمه للعرب كان من قبل الأميركيين وليس الإسرائيليين، وقد أثبتت هذه الصفقات بأن المصلحة الإسرائيلية المتحققة ليس بالضرورة تطابق المصلحة الأميركية، حيث إن مكانة أميركا ارتبطت بأنظمة معزولة جماهيريا، وتجاهلت حتى الشعوب العربية ودروس التاريخ.
وإسرائيل حققت إنجازا بصفقات تطبيع ترامب، لكن أميركا نفسها، ظهرت كعراب للقهر وكسمسار بين تجار السياسة، متراجعة عن ملف حقوق الإنسان، الذي كان سببا في كسبها الحرب الباردة، بما يدفع بالشعوب لدوائر المعارضة، وتحويل القضية الفلسطينية مجددا لدائرة اهتمام الشارع، بعد فقده الثقة في الرعاية الرسمية العربية لها، وكل هذا يعني بأن الملف لم يغلق عند هذه الحدود، بما في ذلك حل الدولتين، الذي ما أن تتأكد استحالة تحقيقه، حتى تجد إسرائيل نفسها أمام حل أسوأ بكثير، ومنه أن تخرج من دائرة المواجهة الضيقة لمواجهة أوسع واشمل، تشمل حدود الإقليم بأسره.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد