لعبت عوائد النفط الهائلة للدول العربية المصدرة له، وخاصة الخليجية منها دورا هاما في تشكيل بنية المجتمعات فيها وتظهير منظومة قيمية جديد وفي رسم ملامح الجغرافيا السياسية في منطقة الشرق الأوسط خاصة و العالم عامة. وذلك بسبب إعتماد أنشطة الحضارة الإنسانية من مواصلات و تدفئة و صناعة و طيران و سياحة وغيرها على البترول كمصدر أساسي للطاقة. أحدث اكتشاف البترول تغييرا جوهريا في بنية المجتمعات التي تنعمت بثراء هائل في شكل و مضمون العلاقات الاجتماعية و المفاهيم القيمية فيها وفي خلق ثقافة و سلوكيات الاستهلاك الترفي وذلك بشكل غير مسبوق. تمكنت هذه الدول، التي أصبحت ثرية بدرجة خرافية من خلق دولة الرفاه و الترف بما مكنها من شراء رضى شعوبها من خلال الاغداق و البذخ الشديد. كذلك تمكنت هذه الدول من أن تستحوذ على دور هام و مؤثر جدا على الصعيد الخارجي، وذلك من خلال امتلاكها للموارد الهائلة للصرف على ترويج سياساتها و تدخلاتها، سلما و حربا في الدول والأقاليم الفقيرة. فقد تم توظيف عوائد النفط كأدوات مالية و إقتصادية لأغراض سياسية وأمنية وثقافية في الدول و الأقاليم المتلقية . حيث أصبح للدول المصدرة للبترول مكانة هامة و مؤثرة في السياسة العربية و الإقليمية و الدولية في مواجهة العواصم العربية التقليدية كالقاهرة و دمشق و بغداد و بيروت. لكن أصبح من المؤكد أن العصر الذهبي للبترول في طريقه للاندثار والتلاشي، مما سيؤثر بشكل حاد على بنية المجتمعات المصدرة للنفط وعلى مواقعها في السياسة الدولية. كذلك سيحدث تأثيرا كبيرا على حالة الاستقرار الداخلي و علاقة السلطات الحاكمة بشعوبها.
تراجع حاد في الايرادات:-
بلغ إجمالي عائدات دول الشرق الاوسط المصدرة للبترول عام 2012 ألف مليار(تريليون دولار). تراجعت هذه الايرادات بحوالي النصف في السنوات الثلاث التالية حيث بلغت 575 مليار دولار في العام 2017. يتوقع أن تواصل إيرادات النفط انخفاضها هذا العام 2020 لتصل إلى مستوى 300 مليار دولار فقط( صحيفة الايكومنست). كذلك نشر موقع روسيا اليوم تصريحات صادرة عن وزارة الطاقة الروسية تشير أن حصة النفط والغاز في ميزان الطاقة العالمي ستنخفض إلى أقل من 50% بحلول عام 2040. كذلك ذكر تقرير صدر في يوليو 2020 عن منظمة "إمبر Ember" المختصة في متابعة تطور إنتاج الطاقة البديلة أن 27 دولة من الاتحاد الأوروبي تمكنت من إنتاج 40% مما تحتاجه من الكهرباء بالاعتماد على الطاقة البديلة المتمثلة في طاقتي الرياح والشمس. يعزى التراجع في عائدات النفط لأسباب عديدة أهمها توجه الدول المتقدمة إلى وسائل الطاقة المتجددة الصديقة للبيئة ( رياح و شمس و بحار) لمواجهة التلوث و التغير المناخي.
تضخم مستويات الانفاق مع تراجح حاد في الايرادات :-
اعتمدت الدول المصدرة للبترول في تقرير حجم الموازنة و في رصد المخصصات للبرامج التنموية و الخدماتية على قيمة الإيرادات المتوقعة من بيع النفط. حيث أصبحت الإيرادات البترولية هي المصدر الأهم لتمويل النفقات التشغيلية والتطويرية العامة. بل توسعت هذه الدول في مجالات الإنفاق بما يفوق كثيرا حجم الإيرادات توقعا منها ان ذلك سيستمر لعقود طويلة. على سبيل المثال : يجب على السعودية أن تبيع برميل النفط ب 73$ والكويت 62$ والعراق 58$ والإمارات 65$ كي تتحصل هذه الدول على العوائد الكافية للوفاء بمستويات الإنفاق المتبعة منذ سنوات الازدهار البترولي. لكن سعر برميل النفط في السنوات الأخيرة أنخفض لما هو أقل من 50 دولار للبرميل بعد أن وصل في سنوات معينة إلى حوالي 100 دولار. سبب تراجع إيرادات النفط و الغاز في العقد الاخير، عجزا مزمنا في موازناتها. حيث لجأت بعض هذه الدول إلى الاقتراض و بيع الأصول و الشركات العامة كوسائل سريعة لتمويل العجز. لكن منحنى إنخفاض سعر برميل النفط كان أسرع بكثير من قدرة هذه الدول على تخفيض مستويات الإنفاق و العمل على إنتهاج سياسة تنويع مصادر الإيرادات و تطبيق سياسات التقشف.
تأثيرات على الدول المستفيدة من تحويلات أبنائها:-
إن التراجع الحاد و المتواصل لعوائد النفط سيقلل من قدرة الدول المصدرة للبترول على جلب ومواصلة تشغيل العمالة الوافدة، حيث ستتجه هذه الدول مجبرة إلى توطين الوظائف كي تخفص فاتورة الإنفاق العام والاحتفاظ بالعملة الصعبة و تنشيط الاستهلاك المحلي. الدول المصدرة للعمالة ستتأثر سلبا و بشكل مباشر و حاد من تراجع عوائد بيع البترول. من هذه الدول مصر، التي يعمل 3% من مواطنيها ولبنان و الاردن 5% وفلسطين 9 % في دول الخليج حيث تشكل تحويلاتهم مصدر أساسي للاقتصاد في بلدانهم. تقدر قيمة التحويلات السنوية لدول الشرق الاوسط من أبنائها العاملين في الخارج ب 62 مليار دولار، تتبوأ مصر المركز الأول بقيمة 28 مليار دولار في العام 2019 والمغرب 8 مليار ولبنان 7 مليار و الاردن ب 5 مليار دولار.
تراجع في التدخل و التأثير على المستوى الاقليمي و الدولي:-
إن تراجع عائدات النفط سيقلل من قدرة الدول المصدرة له على مواصلة الوفاء بالأنماط الاستهلاكية لشعوبها والتي انتشرت وقت الازدهار.في مواجهة تراجع الايرادات النفطية، إتخذت بعض الدول سياسات جديدة منها: فرض ضرائب على الاستهلاك وعلى السلع الفاخرة، تطبيق سياسات التقشف وغيرها. قد يكون لذلك تداعيات على حالة الاستقرار التي نعمت به هذه البلدان، لذا فإن زيادة مظاهر التعبير عن الغضب و عدم الرضى ليس مستبعدا من الشعوب التي لم تكن ترى في الديموقراطية مطلبا هاما مع حالة الرخاء التي كانت تتنعهم بها. على الصعيد الخارجي، فلن تتمكن هذه الدول، كما كان الحال في الماضي ، من توفير الموراد الكافية للصرف على ترويج سياساتها و تدخلاتها الانسانية و السياسية و الأمنية في الدول و الأقاليم الأخرى. خيرا فعلت بعض الدول العربية الخليجية التي بدأت في إنتهاج سياسات التقشف وتنويع مصادر الايرادات وتوطين الصناعات محليا. عصر الازدهار النفطي في طريقه للتلاشي، لذا من الضروري وضع الخطط الاستراتيجية و الجدية لمواجهة تداعيات ذلك.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية