لا يدخل مقتل العالم النووي الإيراني في دائرة التكهن من حيث استهداف الرجل الذي كان على قائمة «الاغتيال» منذ زمن كما هو معروف.
اختبار التوقيت هو بالذات ما يدخل في هذه الدائرة، وهو ما يحتمل التحليل والتمحيص والتخمين.
تعتبر عملية اغتيال العالم الإيراني بكل المقاييس قصوراً أمنياً فاضحاً، بحكم أنه العالم الخامس أو السادس الذي يتم اغتياله، إضافة إلى أنه ـ في أغلب الظن ـ أعلى كفاءة علمية مشاركة في برامج البحوث النووية في إيران، وربما يكون الرجل بالذات هو من يقف وراء ابتكارات التخصيب الخاصة ـ غير المستوردة ـ إضافة إلى مساهماته الحساسة في تطوير برامج الصواريخ الإيرانية.
كما هو معروف للمراقبين فإن «استعجال» العمليات الاستخبارية ينطوي على زيادة منسوب مخاطر الانكشاف، بل وحتى على «مغامرة»، أعلى من المعتاد.
برأيي أن هذا ما حصل في هذه العملية، وأن الطريقة والأسلوب يشيان بأنها تمت على عجل بهدف «خدمة» الاستهداف السياسي وليس مستبعداً أن يكون قرار اغتيال محسن فخري زاده قد طبخ بين الرئيس ترامب ونتنياهو، وبموافقة واستحسان خليجي. إليكم المؤشرات الآتية:
لماذا يتبرع الرئيس ترامب منذ اللحظات الأولى لعملية الاغتيال بالإشارة الإعلامية الصريحة إلى أن العالم الإيراني كان «مطلوباً» لإسرائيل، وأنه كان على قائمة الموساد الإسرائيلي؟
ثم لماذا تتبرع وسائل إعلامية أميركية «بالتأكيد» على مسؤولية إسرائيل الحصرية عن هذا الاغتيال؟
ثم لماذا يوحي نتنياهو بأن إسرائيل، بل وأنه هو من أمر بهذا الاغتيال حين اعتبر أن من بين إنجازاته أشياء لا «يستطيع» التصريح بها؟
يريد الرئيس الأميركي أن يقول إن العملية قد تمت بصورة «اعتيادية، وإن البروفيسور زاده كان على قوائم المطلوبين للموساد، وإن العملية ليس لها علاقة بالانتخابات الأميركية، وإنها قد جاءت في سياق بعيد عن هذه الانتخابات.
في نفس الوقت يصرح الرئيس ترامب بأن إيران إذا قتلت ولو جنديا أميركيا واحدا في إطار ردها على هذا الاغتيال فإنها ستتعرض لرد أميركي مدمّر؟!
أغلب الظن أن الإيرانيين فهموا اللعبة جيداً، وأنهم أدركوا جيداً وبعمق أن أي رد ارتجالي أو متسرع سيخدم ترامب والسيناريوهات التي يعدها لخلط أوراق اللعبة، قبل موعد تسليم الرئاسة في الولايات المتحدة.
هنا يمكن التخمين بأن إسرائيل أرادت أن تسدي للرئيس ترامب آخر «معروف»، على اعتبار أن المعروف السابق هو للرئيس ترامب، الذي كان «خيره سابق» على نتنياهو في عشرات الهدايا والمنح والجوائز على مدى أربع سنوات كاملة من تواصل إغداقها عليه وعلى إسرائيل.
هذا ما يفسر لماذا حصرت إيران المسؤولية عن هذا الاغتيال، بل وباتت إيران «تؤكد» أن لديها من الدلائل الأولية ما يرجح المسؤولية المباشرة لإسرائيل عنها، إن لم نقل ما يؤكدها.
أكثر من ذلك «طار» أحد كبار رجال الاستخبارات الإيرانية إلى العراق ليطلب من كل الميليشيات الموالية لإيران الامتناع التام عن أي أعمال عسكرية ضد القوات الأميركية في العراق.
ليس هذا فقط وإنما أشار الرئيس الإيراني بصورة واضحة وصريحة إلى أن إيران «لن تقع» في الفخ الذي نصبه ترامب لها في الساعات الأخيرة.
الرئيس المنتخب جو بايدن لم يصرح ولا بكلمة واحدة حول عملية الاغتيال، لكنه كلف بعض الشخصيات بالإشارة إليها بالطلب من إيران بضبط النفس، وانتظار إدارة بايدن لتسلم السلطة والبدء بمفاوضات جديدة على كامل الملف الإيراني، في محاولة منه لتفويت الفرصة على ترامب وساعده الأيمن في تل أبيب.
لكن المؤكد هنا أن جو بايدن لن يغفر لنتنياهو أبدا هذه الفعلة وسنرى كيف أن إقدام نتنياهو عليها سيكلفه غالياً.
بطبيعة الحال فالحذر الإيراني لا يكفي ولا يغلق العملية عند هذا الحد.
إذ لا أحد يمكنه أن يضمن 100% أن الميليشيات الموالية لإيران ستمتثل بالكامل للطلبات الإيرانية لأسباب مختلفة، كما أن أحداً لا يمكنه ضمان أن لا تتمكن أجهزة استخبارات أميركية أو إسرائيلية أو غيرها من «افتعال» رد يعطي لترامب «الذريعة» المطلوبة.
ولهذا كله فإن العملية ما زالت مفتوحة، وقد لا تتمكن إيران من تفادي حرب معها أو معركة كبيرة قد تنشأ من عوامل خارج إرادتها وبعيدة عن قدرتها ورغبتها.
هنا لا بد أن نتذكر أن الرئيس ترامب نفسه صرح بصورة علنية لا لبس فيها بأن على الجميع أن ينتظر المزيد من الخطوات والأفعال والمفاجآت حتى موعد العشرين من كانون الثاني القادم.
لكن المؤكد حتى وإن بقيت تبعات عملية الاغتيال عند هذه الحدود فإن الأمور أمام الرئيس الأميركي المنتخب لن تكون سهلة، وأن ترامب بمساعدة نتنياهو وبعض بلدان الخليج ينجح حتى الآن بجعل مهمة بايدن في نطاق الملف النووي اكثر صعوبة من كل التوقعات.
والذي سيزيد الأمر تعقيداً هو التلميح بأن إيران «ربما» ستنسحب من البروتوكول الخاص بانتشار الأسلحة النووية، والذي كانت قد دخلته تطوعا وليس عنوة، وبالتالي فإن البروتوكول الإضافي هو حق سيادي من حيث المبدأ، والتهديد بالانسحاب منه سيعني بالضرورة إنهاء التعاون مع وكالة الطاقة الذرية، وسيخرج برامج إنتاج الصواريخ من كامل نطاق المفاوضات القادمة، وهو ما سيؤدي كذلك إلى وضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليات ملموسة تتعدى الشجب والإدانة والاستنكار والتحذيرات المعتادة من مغبة الانزلاق إلى مواجهات عسكرية.
إذا ما سارت الأمور بهذا الاتجاه فإن بايدن سيكون أمام مأزق كبير، لأن وصول الأمور إلى هذه النقطة سيعني أن استكمال المفاوضات حول الملف النووي لن يبدأ من النقطة التي كان بايدن يرغب بها، وأن جدول أعمال هذه المفاوضات من نقاط أخرى وبعيدة سيكون بمثابة مفاوضات جديدة، وستكون طويلة ومضنية، وستكون في الواقع كما لو أن الملف يعود إلى المربع الأول، وهو ما يحقق لترامب ونتنياهو الجزء الجوهري من عملية الاغتيال كاستهداف سياسي.
هذا كله من جهة، أما من جهة أخرى فإن «رد» إيران على إسرائيل فيما لو تم فعلاً ـ وهي مسألة مشكوك فيها ـ فإن مثل هذا الرد لو كان بمستوى خطورة اغتيال «زاده» فإن تجنب حرب إسرائيلية إيرانية يصبح أمراً اكثر صعوبة من أي وقت مضى.
اليمين الإسرائيلي يقرأ ويستقرئ خطر المأزق الذي سيقع فيه كامل برنامجه السياسي مع غياب ورحيل ترامب، ويفهم هذا اليمين أن ثمة فرقا جوهريا بين الحفاظ على أمن وتفوق إسرائيل بالنسبة للدولة الأميركية وللحزب الديمقراطي وبين أن يكون برنامج هذا اليمين هو البرنامج الوحيد المطروح على جدول الأعمال. هنا لنا عودة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية