قد تكون الصورة التي التقطت للفنان المصري محمد رمضان مع أحد الرموز الفنية لإسرائيل واحدة من أفضل الأمثلة والنماذج التي تعكس الواقع القائم في الوطن العربي حيال مسألة التطبيع.
الحقيقة الصارخة هي أن التطبيع بين بعض الأنظمة العربية وبين إسرائيل ليس له أي قيمة سياسية أو ثقافية طالما أن شعوب المنطقة قاطبة تنظر إلى هذا التطبيع باعتباره وصمة عار سياسية، وباعتباره حالة خيانة تجلب لأصحابها الخزي والنبذ والمقاطعة، وتلطخ أصحابها بأسوأ سمعة أخلاقية، والتي ما ان تلحق بأصحابها حتى يتحولوا الى مطاردين في الفضاء الاجتماعي.
هذا هو موقف الشعب الأردني، وهذا هو موقف الشعب المصري، وهذه هي حقيقة مواقف الشعوب العربية من كامل «مشهدية» التطبيع التي شهدنا بعض فصولها الإعلانية والإعلامية في الحالتين الإماراتية والبحرينية، إضافةً إلى بعض فصولها الخجولة في الحالة السودانية.
بعضنا صدق أن مسار التطبيع قد تحول الى حالة «شعبية» في سياق ما شهدناه من «مظاهر» مفبركة من زاوية التوجيه الإعلامي، ومن زاوية العمل الدؤوب والمثابر من قبل القائمين على ماكينات الإعلام الخليجية الضخمة في محاولتها لتصوير التطبيع ليس فقط كحالة مقبولة وإنما كحالة ابتهاج، وكانفراج أتى من السماء التي منّت على بعض شعوب الخليج بها.
حاولت أدوات الإعلام الخليجي أن تصور التطبيع كاختراق «استراتيجي» قامت به بلدان الخليج، وكتدشين لمرحلة تاريخية جديدة تعيد من خلالها (شعوب المنطقة) الى رشدها، وتعيد الرواية إلى «أصلها»، وتعيد دول الخليج إلى حقها أو حقوقها «السيادية»، إضافة الى محاولة تصوير الإسناد العربي للقضية الفلسطينية، والالتزام بشروط ومحددات السلام التي تؤمّن للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية وكأنه عملية «ارتهان» لا بد من التخلص التام منها، و»التحرر» من قيودها، والتركيز فقط على المصالح «الوطنية» لكل دولة حسب ما تراه، وحسب ما تهدف إليه.
لو بقيت الأمور عند هذا الحد، أو لو توقف الأمر عند هذه النقطة أو عند هذه الحدود لكانت الأمور مجرد كارثة وطنية وقومية حلّت بالشعوب العربية، وبالشعب الفلسطيني..، أما أن تجهد الآلة الإعلامية الأخطبوطية لبعض بلدان الخليج في فبركة رواية جديدة للصراع العربي الإسرائيلي، وللصراع الفلسطيني الإسرائيلي على مدى أكثر من قرن كامل في الكفاح الوطني وكأنه صراع بين «الحق الإسرائيلي» وبين طموحات غير مشروعة للشعب الفلسطيني، أي كأنه صراع بين «الحق» الإسرائيلي و»الباطل» الفلسطيني الذي بات يتطلب عملية تصحيح تاريخية جديدة من خلال مسار التطبيع الجديد، فهذا هو جوهر التطبيع الرسمي الجديد، الذي يدفع بالشعوب إلى مستنقع العار والخيانة.
لدينا تحفظات على كل تطبيع بما في ذلك المجمّد والبارد، ولدينا تحفظات كثيرة على بعض أنواع العلاقات مع إسرائيل حتى في المجال الفلسطيني نفسه وبالرغم من كل طابع العلاقة الإجبارية القائمة بحكم حالة الاحتلال التي تفرض الكثير من العلاقات الحتمية.. ولكننا، اليوم، لسنا أمام علاقات من كل هذا القبيل.
لم نشهد ولا لمرة واحدة أن حرضت مصر شعبها باتجاه التطبيع، أو حتى شجعت أحداً على الإقدام عليه، كما لم نشهد مطلقاً أن دعت الأردن مواطنيها للتطبيع مع إسرائيل او حتى دعت شعبها لقبول واقعة التطبيع.
لهذا بالذات فقد رأينا أن شعب مصر وكذلك الشعب الأردني «تقبلوا» على مضض كبير أن يبقى التطبيع «رسمياً» وأن يتم حصره في أضيق الحدود، وأن يبقى بارداً، إذا كان لا بد من بقائه، ومجمّداً ما أمكن، ولكن مع احتفاظ الشعبين على حد سواء بحقهما في رفضه، ورفض أهدافه وأسبابه ومبرراته، وفي الحق بالدعوة الحرة إلى مقاطعته ومحاصرته.
وبقيت مسألة التطبيع في الحالتين الأردنية والمصرية عند حدود هذه المعادلة، أو عند حدود هذه النقطة من التوازن فيها.
موجات التطبيع الجديدة ليست من هذا كله، ولا تنتمي أبداً وبالمطلق لا إلى ذلك السياق، ولا إلى تلك المعادلة، ولا الى توازنها الخاص.
موجات التطبيع الجديدة تتميز بأن القائمين رسمياً عليها باتوا هم أنفسهم من يحرضون عليها، ومن يشرف على مسارها، ومن يخطط لتعزيزها، ومدها بالزخم والاستمرار، مع كل مشاعر الفرح والسعادة والانبهار.
موجات التطبيع الجديدة هي من زاوية القائمين عليها مرحلة جديدة يتم التفاخر بها والتباهي بإنجازها بل وحتى الاستماتة في تصويرها باعتباره أحد أهم منجزات النظام الخليجي، وهي انعكاس لمدى حيوية وتأثير وعقلانية هذا النظام، وكحالة «نضج» سياسي، ووعي للذات، ونهضة جديدة، ومعاصرة وحضارية كانت مفتقدة.
موجات التطبيع الجديدة ذات الطابع المهرجاني، وذات الرموز الجديدة بما في ذلك رسومات الهيكل، وبما في ذلك أيضاً جسور جديدة للعودة الى منطق «الحق والعدل» لما أصاب اليهود من أذىً في الجزيرة العربية، وطردهم وهضم حقوقهم وصولاً إلى «ضرورة» الاعتذار التاريخي لهم وتعويضهم واسترضاء خاطرهم الذي كسره العرب والمسلمون «المتخلفون» عندما مارسوا على هؤلاء اليهود الاضطهاد الذي لا يوازيه سوى الاضطهاد الذي تعرض له اليهود على يد الغرب الفاشي.
موجات التطبيع الجديدة ليست مجرد ردة سياسية، وليست مجرد تبنٍ كامل للرواية الصهيونية التي لم يعد من عاقل في هذا العالم يصدقها، ولا من عالم أثري موضوعي وحيادي من هو مستعد حتى لمجرد مناقشتها كقضية جدية قابلة للنقاش من حيث المبدأ، وإنما هي هجوم فكري كاسح متسلح بأدوات جبارة لكسر الإرادة وتشويه الوعي واختراع حكايات تؤسس لعبودية طويلة لشعوب أمة بكاملها.
موجات التطبيع الجديدة اكبر من نكبة وأخطر من زلزال وأبعد من مجرد اختراق صهيوني.
من هذه الزاوية بالذات أنظر إلى حساسية الموقف الفلسطيني، وإلى الخفة التي ينظر بها بعضنا لأهمية الموقف الفلسطيني «القدوة» التي يجب أن تظل أمام أعيننا.
المسألة ليست أن تعود بعض أنواع العلاقة بين السلطة الوطنية وإسرائيل، فبعض أنواع هذه العلاقة مفهوم ومتفهم وله طابع موضوعي ضاغط.
المسألة هي ما هو دور هذه العودة من عدمه وكيف تؤسس لإسقاط نهج التطبيع الجديد، بكل موجاته العاتية او تساعده على البقاء والتأثير. هنا المسألة هي مسألة التصدي لهذا النهج وليس الوقوف جانباً للتفرّج عليه.
محمد رمضان ربما يكون ضحية من ضحايا موجة التطبيع وأدواتها الإعلامية ووسائل الإيقاع التي تمتلكها وهو ليس المسألة على كل حال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية