تعتبر الصحافة الفلسطينية رهينة السلطة السياسية وخادمة لها إذ تسطّر الأنظمة القواعد التي تسير عليها المؤسسات الصحفية وتشتغل وفقها غرف الأخبار كلها، ولا تتوفر فيها الحريات السياسية التي تتيح لمهنة الصحافة أن تعيد تشكيل نفسها وأن تجدد نماذجها، وهو ما جعلها تعيش في المستوى الأول من الصحافة فهي نموذج ناقل لأخبار المجتمع السياسي إلى المجتمع. إذ لا تمتلك المؤسسات الصحفية الفلسطينية الإمكانيات التقنية والموارد التي تجعل منها قادرة على تقديم صحافة الجودة فتترك المجال للإسهال الفايسبوكي وتقع غالبًا في فخ إعادة نشر الإشاعات والأخبار الزائفة والتصريحات الكاذبة، وهو ما يسبّب اهتزازّ الثقة في الصحافة.

تضجُّ وسائل الإعلام التقليدية الفلسطينية وصحافة صانع المحتوى يوميًا بالمعلومات حول الأحداث الواقعة وتنقلها دون تفسير ولا تعطينا المفاتيح حتى نفهم خطاب السياسيين أو السياق التي جرت به, إذ لا نجد تحقيقات صحفية اشتغلت على التثبت من تصريحات السياسيين اليومية (صحافة الحد الأدنى)، وإذا ما ظهر أي تحقيق استقصائي لصحفي بارع ضد أي مسؤول سياسي سرعان ما يتم اتهامه بأنه يشتغل لصالح أجندات خارجية بسبب تأثير فيس بوك على الناس الذي عزز الهويات الافتراضية الضيقة وسجن الفلسطينيين في فضاءات فكرية وأيديولوجية مغلقة منسجمة أيديولوجيا وسياسيا لا مكان فيها للتنوع ولا تقبل الاختلاف يطلق عليها "غرف الصدى"Echos Chambers . أضف إلى ذلك توصيف كل مضمون إخباري مناقض لأفكارهم بالمؤامرة الخارجية.

إذًا، بتنا نلاحظ بأن فئة من الأشخاص المأزومين يعتقدون بأن السلطة مخصّصة لهم ويشكلون ما يمكن تسميته "الارستقراطية السياسية". أضف إلى ذلك أن برامج وسائل الإعلام الفلسطيني عادةً ما تقدم السياسة على أنها شأنا خاصا بالسياسيين وحدهم وعلى أساس أنها صراع السياسيين على السلطة، فتحولت إلى إدارة شؤون السياسيين عِوضا عن إدارة الشأن العام وإدارة شؤون الفلسطينيين. وهو ما سئم منه الفلسطينيين وترتب على ذلك عزوفهم عن السياسة بل وفقدو الثقة في السياسة أصلًا.

لقد أثّرت صراعات المجلس التشريعي الفلسطيني على مسار الانتقال الديمقراطي وأعطت عنه صورة سيئة عندما اكتفت قنوات الإعلام بنقل جلساته ذات الخطاب الحزبي الخالص، الأمر الذي جعله فضاء للخصومة والصراع وليس مجالًا لإدارة شؤون الحياة اليومية في فلسطين, وما إذا تأملنا في الوضع الداخلي الفلسطيني فسنرى بأن هناك علاقة تكاد تكون سببية بين نظرة الفلسطينيين للمجلس التشريعي وتراجع الثقة في الديمقراطية، وفي المقابل ارتفعت نسبة مطالبة المجتمع الفلسطيني بالرفاه والأمان الاجتماعي، وهذا دليل أخر على أزمة الانتقال الديمقراطي في فلسطين وهو ما يفسر عودة الخطابات الشعبوية.

ختاما، تتمثل السياسة الاتصالية الحقيقية والأصيلة في مجتمع ديمقراطي ببناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات وليست في الألاعيب والحيل الاتصالية، وللأسف باتت الأحزاب السياسية تقف وراء الأخبار الكاذبة والإشاعات بل وأصبحت جزء من المعيش الفلسطيني. زد على ذلك وجود جماعات تشتغل خصيصا على إدارة شؤون السياسيين في منصات الميديا الاجتماعية وعلى تحطيم صورة المنافسين "المليشيات الفيسبوكية". وبالنهاية، وجب على السياسيين عدم احتكار الحقل السياسي والاستفراد به، وأن تسعى بالشراكة مع كافة وسائل الإعلام الفلسطينية إلى تحقيق حقّ الناس في المعرفة. وفي الحصول على أخبار مهنية ذات جودة تتيح النقاش الحر في المجال العمومي، وتأهيل صحافة تفسيرية يمكن أن تصبح قادرة على إخبار الفلسطينيين بطريقة جيدة تقدّم لهم مقاربات أسلم عن الواقع المعيش ومستقبله.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد