الحقيقة التي تمخضت عنها انتخابات الرئاسة الأميركية هي أن الرئيس دونالد ترامب قد خسر، وأنه سيغادر البيت الأبيض بعد نحو عشرة أسابيع من اليوم، الحقيقة التي تبدو إلى حد ما مفاجئة، لدرجة أن البعض يكاد لا يصدق ما يسمع ويرى، ومن هؤلاء البعض الرئيس ترامب نفسه، الذي شذ عن التقليد المتمثل بقيام المهزوم في السباق الرئاسي بتهنئة الفائز، ووضع حد للجدل واللغط بين الناس.
وللحقيقة أيضاً، أنه يمكن القول: إنه رغم أن استطلاعات الرأي ومنذ وقت طويل كانت تمنح الرئيس المنتخب جوزيف بايدن التقدم باستمرار على منافسه الرئيس ترامب، إلا أن فوز بايدن وخسارة ترامب، تعتبر واحدة من خمس مناسبات فقط في تاريخ الولايات المتحدة التي يخسر فيها رئيس مرشح سعيه للولاية الثانية، وكانت آخر مرة يخسر فيها الرئيس المرشح، عام 1992، حين خسر الرئيس جورج بوش الأب أمام بيل كلينتون، لكن كانت تلك الخسارة تؤكد تراثاً انتخابياً من جهة أخرى، حيث عادة ما يتحقق التداول بين الحزبين الكبيرين بمعدل ولايتين لكل حزب، فيما كان جورج بوش الأب قد أمضى ولاية ثالثة للجمهوريين بعد ولايتي رونالد ريغان، ما بين عامي 1980 حتى العام 1992.
هزيمة ترامب تشبه هزيمة جيمي كارتر، عام 1980، وهو كان آخر رئيس ديمقراطي يفشل في ولاية التجديد، بعد أن كان فاز على الرئيس الجمهوري جيرالد فورد عام 1976، فقد خسر أمام ريغان عام 1980، وكانت الهوة بين سياستي كارتر وريغان واسعة، وكان انتخاب كارتر رداً على فضيحة ووترغيت، فيما وضع فوز ريغان حداً للحرب الباردة، حين دفع بها لآخر مدى بإطلاق «حرب النجوم».
المهم الآن، وخارج إطار المفاجآت، هو أن خسارة ترامب وفوز بايدن، لا تعني أنها حدث عابر، بل هي تغيير حقيقي في سياسة البيت الأبيض التي ستقود أهم دولة ما زالت في العالم، داخلياً وخارجياً، ولعل الاهتمام العالمي بالحدث يعبر تماماً، عن أهمية التغيير الذي حدث في قيادة دفة واشنطن، صحيح أن بايدن ليس كيندي وليس أوباما حتى، لكنه ليس ترامب، الذي كان يمثل الجناح اليميني المحافظ في الحزب الجمهوري، ولعل ليس فقط تصريحات بايدن، بل اختياراته وتكتيكاته خلال الحملة الانتخابية تحدد ملامح سياسته الداخلية والخارجية معاً.
خلال أربع سنوات مضت، حارب ترامب كل إرث باراك أوباما، وهو في حقيقة الأمر، كان يستكثر أن يرى رئيساً أميركياً ملوناً، لذا فقد عبر صراحة عن انحيازه العرقي للبيض، وشجع بسياسته الداخلية الشعور العنصري على الظهور مجدداً، في حين أن بايدن رد باختياره لكامالا هاريس الملونة وهي تنحدر بأصولها من الهند بمنصب نائب الرئيس، ليس ليسجل سابقة في تاريخ أميركا، كونها أول امرأة تحتل هذا المنصب، بل كونها أول أمرأة غير بيضاء تصل لهذه المكانة الرفيعة، المكانة التي كان يمكن لفوز هيلاري كلينتون الذي منعه ترامب بالذات عام 2016، أن يحققها، بعد أن أحدث الأميركيون الاختراق عام 2008 بانتخاب الديمقراطي باراك أوباما الملون رئيساً للولايات المتحدة.
على الصعيد الداخلي، سيبدأ بايدن فوراً بمواجهة « كورونا »، بسياسة نقيضة تماماً لما كان قد فعل سلفه الجمهوري، أي بفرض التباعد الاجتماعي والانحياز للفقراء من ضحايا الجائحة، عبر الوقوف في وجه جشع الأثرياء، كذلك سيعيد الاعتبار للرعاية الصحية، عبر برنامج أوباما الذي كان ترامب قد وضع حداً له، وسيهتم بايدن بالطبقة الوسطى كوسيلة لإنعاش الاقتصاد، ومن بين اهتماماته الرئيسية على الصعيد الداخلي، وضع حد للانقسام على أساس التمييز العرقي، فأول قرار تنفيذي تعهد بايدن باتخاذه هو وقف العمل بحظر دخول المواطنين من بعض الدول العربية والإسلامية.
بل إن بايدن تعهد بمحاربة الإسلاموفوبيا، وكان قد عبر عن امتنانه لتصويت مليون مسلم له، وتعهد بأن يكون المسلمون جزءاً من إدارته، وهذه في الحقيقة سياسة حزبه الديمقراطي، حيث نلاحظ الازدياد المتتابع لعدد الفائزين بمقاعده في الكونغرس، من مسلمي أميركا من أصول عربية وحتى فلسطينية.
أما على الصعيد الخارجي، فإن بايدن وهو على أي حال ليس بيرني ساندرز، سيضع حداً لسياسة طواحين الهواء التي اتبعها ترامب، وسينعكس ذلك على مستوى التدخل الأميركي الفظ في الشؤون الداخلية للكثير من الدول، بل وللعديد من الأقاليم الدولية، سيظهر ذلك في أميركا اللاتينية، حيث سيفقد الرؤساء المستبدون والانقلابيون، خاصة في فنزويلا، حليفهم الأميركي.
وفي الشرق الأوسط، فقد اليمين الإسرائيلي المتطرف، و بنيامين نتنياهو بالتحديد، حليفه المنحاز، الذي ساعده على مواجهة مشاكله الداخلية بالهدايا على مدار ثلاثة أعوام مضت، فيما هو فشل في رد الجميل بإنقاذ صديقه، وستشهد العلاقات الفلسطينية - الأميركية انفراجة وإن متدرجة، قد ت فتح في نهاية المطاف على أفق الحل السياسي، حل الدولتين الذي لم يتلفظ به مطلقاً ترامب ويعلنه صراحة بايدن.
كذلك قد تهدأ الأمور مع إيران بعودة الحديث عن الاتفاق النووي، وإن بتعديل ما، وستتوقف أميركا عن سياسة البزنس مع الخليج، كذلك سيعيد الاعتبار لحلف شمال الأطلسي واتفاق المناخ، وربما أيضاً يتراجع عن سياسة التوتر مع الصين وكوريا الشمالية.
وحيث إنه من الصعب الحديث عن التراجع فيما يخص اعتراف ترامب ب القدس عاصمة لإسرائيل وضمها للجولان، إلا أنه سيدفن «صفقة العصر»، كذلك سيمنع خطة الضم، وإن كان من الصعب التراجع عن التطبيع مع الإمارات، إلا أن صفقة إف 35 قد تتوقف في عهده، لهذا فإن الخطر يتمثل اليوم فيما تبقى من ولاية ترامب، حيث يفكر الإسرائيليون في استباق تولي بايدن، بإعلان ضم الكتل الاستيطانية مثلاً، للرد ربما على ما كان قد فعله أوباما قبل رحيله بتمرير قرار مجلس الأمن رقم 2334 المناهض للاستيطان، بما فيه بالقدس الشرقية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد